لأكثر من سبب ينساب صوت فيروز متلألئا، فتحضر لبنان في خاطري، ولبنان هنا، ليس المكان بعينه، وليس الجبل، والجدول، والوادي، والبرد والمطر، وكرمة العنب، وساحة الرقص، والدبكة، وخصر البنت الذائبة في الحب، والمواعيد المخبأة خلف ورق الشجر، وصوت العصفور، واللون الأخضر، وموقد الجمر، وحكايا الهمس والنظرات وخفق القلب، ودمع الفراق، بل هو كل هذا وأكثر!

Ad

لبنان في صوت فيروز يستحضر الوطن بصيغته المطلقة، حيثما كان ذلك الوطن. الوطن الحنين والحلم. لبنان في صوت فيروز، هو الصور الأبهى للأحبة والذكريات. لبنان في صوت فيروز هو مآسي الوطن العربي الجريح، المبتلى بقهره وضيمه وحروبه ونزف الدم. لبنان في صوت فيروز هو الحلم الجميل الباقي لنا.

صوت فيروز صوت يحمل بين طبقاته موسيقى الموسيقى المصفاة، مثلما هو محمّل بالإنسانية، وعزة الوطن، والفرح الطفولي، وحزن الثكلى، ولهفة المنتظر، وجنون المحب، ونزق العاشق، ووجع المهجور المنسي.

صوت فيروز، يمثل مرحلة مهمة من مراحل الزمن العربي الجميل، يوم كان العالم العربي من خليجه إلى محيطه معبأ بصور الحلم، وسائرا في دروب الشعارات الكبيرة. يوم كان الفن رأس حربة ذلك الحلم على مستوى الفنان، والكتاب الإبداعي، والتشكيل، والمسرح، والغناء والموسيقى، والسينما وغيرها. يوم كان ذلك النتاج الإبداعي وليد التجمعات والحوارات الفنية الجادة والمخلصة والمتصلة فيما بينها، والمنكشفة على الإرث الإنساني الثقافي والفني.

فيروز وليدة مرحلة ضاجة وصاخبة من التاريخ العربي الحديث، مثلما هي وليدة مدرسة الرحابنة، شعراً وموسيقى ولحناً ومسرحاً. لم يكن لفيروز أن تكون لولا توافر الظرف الموضوعي الرحباني المتصل بالوضع الاجتماعي والاقتصادي والفني في لبنان والمنطقة العربية. ومن ثم تزاوج هذا الظرف الموضوعي مع الظرف الذاتي الخاص بموهبة فيروز وقدرتها الصوتية غير العادية. لقد توافر لفيروز ظرف يمكن أن يوصف بالقدري، وكان نتيجة ذلك بروز نجمة قل مثيلها على خارطة الفن العربي الغنائي والموسيقي.

وحده صوت فيروز مازال قادراً على بعث الأمل في قلوبنا، ووحده صوت فيروز مازال قادراً على منحنا لحظة فرح نادرة، ووحده صوت فيروز يحرك مياه قلوبنا المنهكة، فيبث فيها الذكريات الأجمل، ولحظتها تمطر الدنيا ياسميناً ولؤلؤاً وزغاريد.

إن عظمة الفن، بجميع أجناسه، تكمن في قدرته على بثِّ شيء من فرح وتفاؤل وأمل للحظة الإنسان، مما يمنح الإنسان نَفَسَاً جديداً ضرورياً لمواجهة ومجابهة الحياة، نَفَسَاً يدفعه إلى مزيد من العمل والتضحية والحب، نَفَساً يُعيد إليه ثقته بنفسه وبما حوله، ويلون الواقع بألوانه الزاهية، مزيلاً عنه طبقة السواد الكالحة التي تضلله.

صوت فيروز، عطر ياسمين فواح ينتشر بين جنبات يومنا، وأحد مجمّلات حياتنا، وكم نحن بحاجة إلى مجمّلات فنية خالصة تكحل رموش حياتنا المتعبة؟