يتصور البعض أن المراجعات التي تقوم بها الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، ستكون بمنزلة الجراحة النظيفة، التي تندمل سريعا من دون أن تترك أي ندوب وآثار، غائرة أو سطحية. لكن إمعان النظر في هذه المراجعات التي بدأت بما فعلته «الجماعة الإسلامية» المصرية، ثم تنظيم الجهاد المصري، وأخيرا ما نسب إلى سيد إمام الشهير باسم «الدكتور فضل» والذي يعد الفقيه الأول لما تسمى «الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين» المعروفة إعلاميا وأمنيا باسم «تنظيم القاعدة» تشير إلى أن لها توابع متوقعة على الأرجح، بعضها يظهر في وقت قصير، وآخر يظل كامناً في رحم المستقبل حتى تحين لحظة خروجه، فيراه الناس عيانا بيانا، ويعايشونه مثلما عايشوا الكثير من أفكار وممارسات هذه الجماعات والتنظيمات.

Ad

وكان التابع الأول هو وجود حال من الاندهاش والعجب بين صفوف الأفراد العاديين أو العناصر القاعدية في هذه التنظيمات، حيال هذه المراجعات التي لم تكن في حسبانهم، وهم ينخرطون بشدة ويتفاعلون بقوة مع أفكار الجماعة الإسلامية التي وردت في كتابها المؤسس «ميثاق العمل الإسلامي» ومع الخطط التي وضعها «الأمراء» في منازلة النظام المصري الحاكم في فترة امتدت من عام 1988 إلى عام 1997. فوقتها كانوا يعتقدون أن النصر على النظام سيكون حليفهم، وسيتم تعبيد الطريق أمامهم لتطبيق أفكارهم السياسية الراديكالية، حين تقام دولتهم المبتغاة.

وحل بعد الاندهاش صمت لا يزال مطبقا على أفراد الجماعة الإسلامية، فلم ينتقدوا مراجعات أمرائهم وقادتهم، لكن لم نسمع عن مباركة أو ترحيب شديد بما تم. واقتصر الأمر على استفادة السجناء والمعتقلين من أفراد الجماعة من تلك المراجعات، إذ أفرجت السلطة عنهم تباعا، وعادوا إلى مساقط رؤوسهم، تراقبهم عيون الأمن عن كثب، فيعطون دوما إشارات على أنهم قد عادوا عن مسلكهم تماما، لكن ليس هناك ما يمنع أن تكون تلك الإشارات من قبيل «التقية»، وليست عن قناعة تامة، أو مفارقة كاملة لأفكار الماضي وممارساته.

لكن الصمت كسر في بعض الأحيان عبر ظهور ما تعرف بالتنظيمات الراديكالية الهامشية، التي تتكون من خلايا صغيرة، محدودة العدد، منكمشة في مكان محدد، وليس لها إطار فكرى أو ايديولوجي واسع، إنما تسعى إلى تحقيق أهداف مؤقتة وسريعة، وقد ينقضي التنظيم فور تحقق هذه الغاية الطارئة. ومن هنا شهدت مصر عام 2002 أعمال عنف محدودة قام بها متطرفون إسلاميون. وفي 7 ابريل من عام 2005 شهد حي الأزهر تفجيراً، تبعه آخر في يوم 30 من الشهر نفسه وقع في ميدان عبدالمنعم رياض بوسط القاهرة، وهما الحادثان اللذان أوديا بحياة 3 سائحين أجانب، وإصابة 18 آخرين، منهم 10 مصريين، وبالتزامن مع ذلك الحادث، أطلقت سيدتان الرصاص ضد أتوبيس سياحي في منطقة السيدة عائشة ولم يصب أحد في الحادث، بينما أطلقت إحدى السيدتين النار على الأخرى، ثم على نفسها ليلقيا مصرعهما على الفور. وتكرر الأمر بشكل أكثر ضراوة وتركيزا وإيلاما في حوادث سيناء التي تبين أن وراءها تنظيما محليا صغيرا يدعى «التوحيد والجهاد».

ومثل هذه التنظيمات الهامشية ليست أمرا جديدا على الساحة المصرية، التي شهدت في ثمانينيات القرن الماضي العشرات من نظائرها، بعضها خرج من رحم الجماعات الكبرى، إما لتزيد في التشدد الفكري، أو لخلاف حول نجاعة الأسلوب المتبع، أو لرغبة بعض القيادات الصغيرة في الاستقلال عن «الجماعة الأم» إما حبا في الظهور، وإما غبنا من محدودية الدور، أو اقتناعا بأن الفائدة المرجوة من تكوين تنظيم جديد أكبر من الاستمرار تحت لواء التنظيم الأساسي.

وعلى المستوى المحلي الضيق فمن المتوقع أن تعاود مثل هذا التنظيمات الظهور في الفترة المقبلة، إثر مراجعات الجماعة الإسلامية والجهاد، فالفرصة لم تعد مهيأة لقيام جماعات أو تنظيمات كبرى، لها أطر ايديولوجية واضحة المعالم وانتشار واسع، عابر للأماكن والطبقات والثقافات. أما على المستوى الدولي فإن مراجعة الدكتور فضل سيكون لها تأثير وقتي على «تنظيم القاعدة»، وستتوالى توابعها مع الأيام، نظرا إلى موقع الرجل ومكانته في هذا التنظيم المتعولم عابر القارات، لكن لا يعتقد أن توابع ما فعله فضل ستصل إلى حد انهيار القاعدة أو تراجع نفوذه إلى الحد الأدنى، أو حدوث انشقاق كبير بين صفوفه.

* كاتب وباحث مصري