Ad

المبادرة مع إيران لا مهرب منها ولا مجال لتأجيلها حتى إن لم تكن شاملة أو طويلة المدى، فأهم ما تتضمنه هذه الصفقة هو إجهاض الحلول العسكرية للأزمة النووية الإيرانية الغربية، والبدء بإطلاق قوى وعوامل جديدة لإعادة البناء السلمي إلى المنطقة بما يحضرنا لتصميم صيغة جديدة للعلاقة بين المنطقة والنظام العالمي.

تقضي الشعوب العربية والإسلامية هذا العيد وهي تنتظر متوالية من الإجابات من خارجها عن أسئلة كبيرة مؤجلة، أهم هذه الأسئلة لا يتعلق بأحداث أو أزمات بعينها أو تداعيات وتطورات محددة في موقع أو بلد ما، فأولها وأهمها هو ما تفعله بنفسها ولنفسها لإنهاء التيه الممتد أو التغريبة الطويلة في الزمان.

وللعرب تاريخ ملحمي طويل مع تجربة الغربة في المكان، ويطلق العقل الشعبي على هذه التجربة مصطلح «التغريبة» التي تحكي عنها السير والأمثال، وبدلاً من السّير الشفاهية القديمة تأخذنا الروايات المطبوعة والمسلسلات المرئية للاطلاع على مشاهد لا حصر لها لتجارب جديدة «للتغريبة» في المكان. الفلسطينيون مثلاً لديهم تجربة بالغة التنوع وبعضها يضاهي الأساطير بعد أن أُجبروا على مغادرة بلادهم بالقوة، والمصريون والسودانيون والسوريون واللبنانيون لديهم تجربة جديدة عليهم في السفر شبه الطوعي خارج بلادهم الصغيرة وإن كان أغلبها داخل بلادهم الكبيرة. أهلنا في المغرب العربي اليوم يعيشون منقسمين بين من بقي ومن سافر خارج بلاده ليعيش في ظل ثقافة أخرى لم يؤلف للألفة معها صيغة مستقرة أو ناجعة. الكل تقريباً في الوطن العربي يعيش تجربة التغريبة في المكان أحياناً داخل بلاده أيضاً.

ولم تنتبه الملاحم والسّير الشعبية لتجربة الغربة في الزمان مع أنها التغريبة الأشق على النفس العربية اليوم.

التغريبة الطويلة في الزمان هي تجربة الانخلاع من العيش في زماننا والاضطرار إلى العيش في زمن غيرنا، أو بالأحرى زمن لم نشارك في ولادته وتشكيله وإدارته، أو زمن مفروض علينا من دون حتى أن نفهمه أو نستوعب إحداثياته، التغريبة الطويلة في الزمان هي رحلة غير مؤكدة للبحث عن أبسط المعاني: معنى الهوية والذات وسط عالم لم نشارك في صنعه ولا مجرد اختياره.

ولأن هذه الرحلة ليست مزودة بالخرائط ولا حتى معينة الهدف فنحن في الواقع نعيش تجربة انتظار... ننتظر قرارات وأحداثاً تقرر مصيرنا وزماننا الحالي والمقبل. والمذهل أننا ننتظر بتسليم شبه قدري بعجزنا عن تقرير مصيرنا بأنفسنا وعجزنا عن مجرد النطق بنبوءة بديلة أو مجرد مناقشة خطة سير ما أو الاستجابة لما قرره الآخرون لنا حتى لو تضمنت قراراتهم اتخاذنا أسرى ورهائن متفرقين لأزمان مقبلة لنواجه تيهاً جديداً قبل أن تنتهي المتاهة القائمة.

سكينة في العيد

وسط هذه التغريبة وبين ضفاف هذا التيه سوف تقضي الشعوب العربية والإسلامية عيدها. ولكن ماذا يفعل التائه في الأعياد؟

أبسط ما يمكن أن يفعله هو استجلاب لحظة سكينة ليفكر بعمق في معطيات واقعه ولينتج فكرة تحرره من انتظار مكلف، والأهم أن ينتج خطة سير أو مبادرة فعل تضعه على الطريق للاتجاه الصائب نحو ذاته ودنياه وصورة البيت الذي يريده لنفسه وطبيعة الزمن الذي يود أن يحياه.

وسكينة العيد قد تكون لحظة أو لحظات قصيرة وعابرة قبل العاصفة، فالأجندة كلها تنتظر قرارات الكبار والأقوياء التي قد تأتي سريعاً: مفاوضات إعلان مبادئ يتلوها مؤتمر دولي قد يقرر مصير الشعب والأرض الفلسطينية، قرارات متضاربة حول الرئيس اللبناني قد تقذف بالبلد إلى أتون حرب أهلية تذهله وقد تقسمه، قرارات بقاء وسحب للقوات الأجنبية تعيِّن مسار العراق ومصيره، أي حدث قد يغير جذرياً مصير اليمن في أي وقت، مؤتمر حزبي أو أحداث مفاجئة تقرر الخلافة السياسية في مصر، قرار صحيحٌ أو خاطئ يعيد السودان إلى حرب أهلية متعددة البؤر. وفي خضم ذلك كله ينتظر الجميع مساراً جديداً على نحو ما لحسم أو حرف الأزمة والصراع بين أميركا والغرب كله هذه المرة من ناحية وإيران من ناحية أخرى. ومع صدور هذا القرار سيتغير كل شيء في المنطقة كلها وفي شبه الكوكب العربي من الخليج إلى الصحراء الكبرى الفاصلة أو الرابطة بين وادي النيل والمغرب الكبير بما في ذلك فلسطين ولبنان والأردن والعراق.

تنبئ حالة التغريبة العربية الراهنة بأن كل دولة عربية ستمضي في طريقها إلى التيه نفسه أو إلى متاهة جديدة وسط الإعصار المتوقع، مصر توقع اتفاقاً مع حلف الأطلنطي وتعاني لاستعادة استقرار متعثر في العلاقة الشاذة مع أميركا والأغرب مع نفسها، سورية تبحث عن حل مع إيران وربما كوريا، العراق لا يزال يمضي في حربه الأهلية الأكثر عبثاً إلى مستقبل أكثر عبثية من كل ما مضى، فلسطين مفرقة ومشتة وخائرة القوى وسط يأس شامل من إنقاذ أو إسناد عربي سريع، لبنان ينتظر حلاً من خارجه أو انفجاراً مريعاً من داخله وسط تحضيرات واستعدادات لا تخفى على أحد، السودان بؤرة للضغوط الدولية وسط سكرة داخلية لا يعلم أحد متى تنتهي، والخليج غامض بشأن قرار ملتبس وصعب، هو الأهم في تاريخه المعقد الطويل من الحروب والأزمات.

وبإيجاز نعيش في هذا العيد لا مجرد حالة مزرية من الانتظار لعواصف وأعاصير تتكون تحت أعيننا... إننا نعيش هذا الانتظار ونحن في حالة من التشتت تشتمل على انهيار عقلي ونفسي، حالة لا مثيل لها في أي منطقة أو لدى أي ثقافة أو عند أي كيان اجتماعي أو قومي في أي منطقة أخرى من العالم ولا في أي مرحلة من تاريخنا الحديث.

مبادرة ضرورية وممكنة

البديل الوحيد هو أن نفكر في لحظة سكينة وتركيز عاليين في خطة سير تصل بنا إلى طريق نختاره، البديل الوحيد هو أن نوقف حالة الانتظار العاجز بإنتاج فكرة أو مبادرة خلّاقة تغير مسار مستقبلنا ونبدأ بها إنهاء تغريبتنا الطويلة ومتاهتنا العجيبة.

المبادرة الممكنة يجب أن يكون لها عمقٌ ثقافيٌ وأخلاقيٌ وإنسانيٌ، ولكنها في نهاية المطاف يجب أن تكون مبادرة سياسية.

والمبادرة السياسية الممكنة التي تضعنا على بداية طريق آمن وسليم نحو مستقبل نصنعه أو نشارك في صنعه يجب أن تكون مع أنفسنا أولاً ثم مع إيران ثانياً.

المبادرة الممكنة تدور حول «صفقة جديدة» مع النفس بين الدول العربية الكبيرة وصاحبة الأدوار الأساسية في السياسة الإقليمية والدولية: مصر وسورية والسعودية. لا تدور المبادرة الممكنة حول إزالة النفور المتبادل أو التباعد العفوي فليس لهذه الفكرة مستقبل من دون صفقة كبيرة بنّاءة تعالج هشاشة الوضع الإقليمي والدولي لكل منها وتصلح لإعادة بناء طويلة المدى نسبياً. وبدءاً من هذه الصفقة يمكن وضع صياغات متفق عليها لعلاج فوري للأزمات الداخلية في فلسطين ولبنان والتقدم من ذلك إلى وضع صياغات عربية لعلاج أزمات العراق والسودان والصومال وربما بقية الأزمات الملحة الأخرى.

المبادرة مع إيران لا مهرب منها ولا مجال لتأجيلها حتى إن لم تكن شاملة أو طويلة المدى، فأهم ما تتضمنه هذه الصفقة هو إجهاض الحلول العسكرية للأزمة النووية الإيرانية الغربية، والبدء بإطلاق قوى وعوامل جديدة لإعادة البناء السلمي إلى المنطقة بما يحضرنا لتصميم صيغة جديدة للعلاقة بين المنطقة والنظام العالمي. استبدال الصراع بالتوافق والشراكة مع إيران خطة سير جيدة ويمكن أن تشكل دافعاً كافياً وقابلاً للترجمة الخلّاقة لبناء واقع ونظام إقليمي جديد، بل إعادة الحياة إلى مشروع بناء إسلامي.

ورغم كل علامات وأعراض المتاهة وفقدان الإرادة وانحطاط القوى واختلاط العقل فهذه المبادرة ممكنة، وهي أفضل الطرق لتجنب كوارث كبيرة وتغريبة أطول وأشق للنفس العربية.

* كاتب مصري