كي نفهم حقيقة الرسوم الدنماركية 1-2
ما يجب ألا يسقط سهواً ولا عمداً من أذهاننا هو أن الغرب لم يكن كتلة واحدة في رؤية هذا الحدث الجلل منذ البداية، بل إن فيه رجالا ومفكرين كانوا أكثر حدة في رفض الإساءة للرسول الكريم من بعض المسلمين أنفسهم، وذلك من منطلق احترامهم لمشاعر الناس الدينية، وأن تجريح عقائد الناس ليس مجالا للأفعال الصبيانية الرخيصة.
بين وقت وآخر تسعى قلة متطرفة أوملحدة في أوروبا تعتلي صحفاً صفراء ومنظمات عنصرية إلى أن تسيء إلى الإسلام، مستغلة سلوك بعض الجماعات والتنظيمات المتطرفة والإرهابية التي تحول هذا الدين العظيم إلى أيديولوجيا سياسية، فتنال من دوره في تحقيق الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي، وتجرح سماحته ووسطيته وعالمية رسالته المربوطة بالرحمة والإحسان. وحاولت هذه القلة الأوروبية أن تسيء إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فأحسنت إليه، من حيث لا تدري، وعلى عكس ما أرادت، وما صورت لها أذهانها المريضة بداء الإفلات الذي تسميه زوراً وبهتاناً «حرية تعبير» مع أن الحرية لا تعني الفوضى، كما أن التجرؤ على عقائد الناس ليس شجاعة، بل وقاحة، من الضروري أن يكون هناك قانون دولي يضع حداً لها، ويخمدها في مهدها، حتى لا تؤدي إلى فتنة، لعن الله من أيقظها، ومن ينفخ في نارها.ووجه الإحسان للرسول الكريم، ليست الصور البذيئة التي نشرتها صحف في الدنمارك والنرويج وفرنسا وأسبانيا، ولا بعض التعنت الرسمي الغربي والمكابرة في الاعتذار إلى أمة تشكل أكثر من خُمس البشرية، ولا حتى المبالغة في رد الفعل لدى بعض الغيورين على دينهم بحرقهم سفارات غربية، بل في «الاتحاد» الذي ظهر عليه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها وهم ينتصرون لدينهم بطريقة عفوية وبإخلاص شديد حسدهم عليها كاردينال تشيكيا للكاثوليك، وفي النية التي انعقدت على أن يطلق المسلمون رسالة مستمرة بكل الوسائل الحديثة الممكنة لتعريف الناس بأخلاق الرسول وفضله على البشرية، وفي اتجاه كل من منظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية إلى السعي في إصدار قرار من الأمم المتحدة مصحوب بفرض عقوبات محتملة لحماية الأديان، وأيضا في المظهر الحضاري والإنساني الذي ظهر عليه بعض رجال الدين والساسة في أوروبا وغيرها في تعاملهم مع هذه الأزمة الخطيرة، وفي إبداء احترامهم للنبي الكريم. وإذا كنا نعلم الكثير عن تفاصيل غضبة العالم الإسلامي، سواء في المرة الأولى أو هذه المرة، فإن ما يجب ألا يسقط سهواً ولا عمداً من أذهاننا هو أن الغرب لم يكن كتلة واحدة في رؤية هذا الحدث الجلل منذ البداية، بل إن فيه رجالا ومفكرين كانوا أكثر حدة في رفض الإساءة للرسول الكريم من بعض المسلمين أنفسهم، وذلك من منطلق احترامهم لمشاعر الناس الدينية، وتبصرهم الجلي بالقاعدة الذهبية التي تقول «إن حريتي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين» وأن تجريح عقائد الناس ليس مجالا للأفعال الصبيانية الرخيصة، التي يرتكبها بعض المغرضين أو الملحدين، الذين وصل الغرور ببعضهم إلى الادعاء بأن من حقه أن يرسم صورة الله نفسه.إن المتطرفين من الجانبين سيحاولون أن يصورا ما جرى على أنه حرب دينية بين الإسلام والمسيحية، متغافلين عن قيام بعض الغربيين بالإساءة إلى السيد المسيح عليه السلام مراراً، في أعمال سينمائية وفي صور وكتابات لا حصر لها، وأن المسلمين في الغرب كانوا هم أكثر المحتجين على مثل هذا المسلك المعوج. كما سيحاول المتطرفون من بيننا أن يهيلوا التراب على مواقف ناصعة في الأزمة الأخيرة، وقفها «الفاتيكان» و«الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا» وقادة الكنائس المصرية والرئيس الفرنسي، رئيس وزراء النمسا وكثير من المسؤولين في أوروبا وخارجها، واتحاد القساوسة في الدنمارك الذي طالب بعدم المساس بالعقائد وإهانة الأنبياء والرسل، وكذلك حاخامات يهود انضموا إلى قافلة الرافضين لما جرى. وفي غمرة الحدث الجلل يجب ألا ننسى عدة أمور حتى يمكننا أن نقيم ما جرى على وجه الصواب، من دون تسرع أو انحياز إلى الفوضى أو الغوغائية التي لن تنتج أي شيء مفيد على المدى الطويل. الأمر الأول أن هناك دراسات تبين أن أغلب الأوربيين ملحدون، وأن من بين ثمانمئة مليون كاثوليكي في العالم أجمع لا ينتظم في الذهاب إلى الكنائس إلا ما يربو قليلا على عشرة ملايين شخص، وهذا أمر يجب أن يقلق المسلمين أكثر مما يفرحهم، فالمسيحي المؤمن، كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمة الله عليه، أفضل كثيراً ممن لا يؤمن بالله، والإساءة للرسول الكريم لم تأت من مسيحي يدافع عن دينه، بل أتت من أناس لا يحترمون أي دين أصلاً. * كاتب وباحث مصري