فرنسا تنتعش من جديد
بعد الموات النسبي الذي اعترى السنوات الأخيرة من ولاية الرئيس جاك شيراك، عاد النشاط إلى السياسة الخارجية الفرنسية. وهذا تطور محمود، ليس بالنسبة إلى فرنسا فحسب. ذلك أن مذهب الفعّالية الذي يتبناه ساركوزي يَـعِد أيضاً بدعم النفوذ السياسي الأوروبي وتعزيزه على مستوى العالم.
يرجع جزء من أسباب فوز نيكولا ساركوزي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية في شهر مايو إلى نجاحه في اجتذاب قسم ضخم من أنصار أقصى اليمين إلى جناحه المحافظ. والحقيقة أن التأييد الشعبي لحزب الجبهة الوطنية قد هبط من نحو 15 إلى %10، الأمر الذي أدى إلى إضعاف الجبهة الوطنية بشدة وتعزيز قوة اليمين الفرنسي التقليدي.لقد نجح ساركوزي عن طريق إحراج أفكار وحجج الهوية الوطنية والهجرة. وعلى هذا فقد رأى العديد من الناس أن حملته الانتخابية تميل إلى اليمين ميلاً شديداً. وفي فرنسا وأنحاء أوروبا كافة، توقع الناس حكومة شديدة المحافظة، شبيهة بإدارة رئيس الولايات المتحدة جورج دبليو بوش.
لكن هذه الفكرة كانت خطأً. ذلك أن اعتناق ساركوزي فكرة تعرض الهوية الوطنية الفرنسية إلى التهديد، والذي ربطه بالهجرة، لا يكفي لتأهيله كمحافظ جديد على الطريقة الأميركية. ولقد اختار أن يبين هذا بأقصى درجات الوضوح في ميدان السياسة الخارجية.لقد شكل ساركوزي حكومته من منطلق إدراكه أن السياسة الخارجية الفرنسية كانت تدار مدة طويلة على نحو اتفاقي تلقائي. وعلى هذا فقد سلم زمام الشُـعَب الرئيسية للسياسة الخارجية في الحكومة الفرنسية إلى ساسة من جناح اليسار. فعين برنار كوشنير وزيراً للخارجية، وهو الاشتراكي الذي سبق له أن شغل منصب وزير الشؤون الإنسانية، ومنصب نائب وزير الصحة. وعين يساري آخر، جون بيير غوييه، مسؤولاً عن الشؤون الأوروبية. وعين جون ماري بوكيل، عمدة مولهاوس الاشتراكي، وزيراً للتعاون والعلاقات مع العالم الفرانكفوني. كما حصل الاشتراكيون على أقسام أخرى في حكومة ساركوزي. وحصلت فضيلة أمارا، مديرة إحدى المنظمات غير الحكومية التي تدافع عن حقوق المرأة، على منصب وزير الدولة لإدارة المدن.كانت مبادرة ساركوزي الثانية من حيث الأهمية مرتبطة بإعادة تنشيط المشروع الأوروبي. فبعد الإخفاق الذي مُـني به مشروع الدستور الأوروبي التمهيدي عام 2005، كان من غير الواضح على الإطلاق أن المفاوضات التي قد تسفر عن تقدم جزئي فقط في تحسين آليات اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي ربما تشكل الوسيلة الأفضل لمتابعة العمل على هذا المسار. إضافة إلى ذلك فلم تكن هناك ضرورة ملحة مباشرة، وكان الجميع قد يتفهمون الموقف إذا ما قرر ساركوزي أن ينتظر عامين أو ثلاثة أعوام أخرى قبل أن يجازف بسمعته في محاولة إحياء فكرة الدستور الأوروبي.لكن ساركوزي قَـبِل المجازفة، ونجح في إقناع الزعماء الأوروبيين باعتناق فكرة «المعاهدة المبسطة» التي دعا إليها. بالطبع، لم يدون النص النهائي للمعاهدة حتى الآن، لكن النجاح يبدو ممكناً، وهذا من شأنه أن يحسن من أداء الآليات التي يعمل الاتحاد الأوروبي وفقاً لها، إضافة إلى إرسال إشارة واضحة إلى المتشككين في أوروبا، وبصورة خاصة البريطانيين والبولنديين. ولم تتخل فرنسا عن مطالبتها بأوروبا كوحدة «سياسية» وليس مجرد سوق موحدة.أما مبادرة ساركوزي الثالثة فقد جاءت حين استقال رئيس صندوق النقد الدولي. فقد جرت العادة على تعيين أوروبي في هذا المنصب. لكن ساركوزي فاجأ الجميع حين رشح لهذا المنصب الفرنسي الاشتراكي دومينيك شتراوس كان، الرجل الذي يتمتع بكفاءة حقيقية والذي يحظى باحترام واسع النطاق. كان ترشيح شتراوس كان لهذا المنصب بمنزلة ضربة فعّالة أيضاً في ما يتصل بالسياسة الداخلية الفرنسية، حيث يَـعِد هذا التحرك بإضعاف معارضة الاشتراكيين. إلا أن اختيار ساركوزي هذا يشكل في المقام الأول من الأهمية موقفاً حاسماً في إطار المناقشات الدائرة اليوم بشأن الاقتصاد العالمي. فقد أعلن ساركوزي باختياره هذا أنه من أنصار «تنظيم» الاقتصاد العالمي، وليس من الليبراليين العالميين المقتنعين بأن التوازن القائم بين قوى السوق اليوم هو الأمثل، وعلى هذا فليس هناك ما يدعو إلى التدخل لتقويمه.تتصل المبادرة الرابعة أيضاً بالشؤون الخارجية: تحرير الممرضات البلغاريات الست السجينات في ليبيا باتهامات ملفقة بتعمد إصابة أطفال ليبيين بفيروس الإيدز. كانت المفاوضات المكثفة مع ليبيا، من جانب أوروبا بصورة خاصة، مستمرة منذ أكثر من عام، لكنها لم تصادف أي نجاح، وذلك لأن المفاوضين لم يحظوا بثقة حاكم ليبيا العقيد القذافي. ولقد أدرك ساركوزي هذه الحقيقة، فكان اختياره لزوجته كمفاوضة في هذا الشأن سبباً في تيسير التوصل إلى حل لهذه القضية.ويسعى ساركوزي، فضلاً عن ذلك، إلى تكثيف التعاون في مجال التنمية في منطقة البحر الأبيض المتوسط بالكامل، فبدأ برحلة رئاسية إلى الجزائر، ثم إلى طرابلس، ثم أعقب ذلك بزيارات على مستوى الوزارات إلى بيروت. الحقيقة أن ضمان تنمية هذه المناطق سوف يشكل تحدياً طويلاً وصعباً، بيد أن التصدي لهذا التحدي أمر واجب وضروري.وكانت الاستعدادات التي تبذلها الحكومة لتولي دور الريادة في المحادثات الدولية بشأن تغير المناخ من بين العلامات الأخرى التي تشير إلى اعتزام ساركوزي إحياء فرنسا باعتبارها قوة عالمية.بعد الموات النسبي الذي اعترى السنوات الأخيرة من ولاية الرئيس جاك شيراك، عاد النشاط إلى السياسة الخارجية الفرنسية. وهذا تطور محمود، ليس بالنسبة إلى فرنسا فحسب. ذلك أن مذهب الفعّالية الذي يتبناه ساركوزي يَـعِد أيضاً بدعم النفوذ السياسي الأوروبي وتعزيزه على مستوى العالم.* ميشيل روكار | Michel Rocard ، رئيس وزراء فرنسا وزعيم الحزب الاشتراكي سابقاً، وعضو في البرلمان الأوروبي حالياً.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»