Ad

إن القاعدة القاضية بأن يكون رأس الدولة ذكراً «واسبيّاً»، منتمياً إلى الـ«واسب» راسخة ومُلزمة لا محيد عنها، علما أنه لم يكرسها دستور ولا أملاها قانون، وهي تتكوّن من الأحرف الأولى لـ«أبيض، أنكلوساكسوني بروتستانتي»، ولم «تُخرق» تلك القاعدة إلا لدى انتخاب جون فيتزجيرالد كيندي، وكان أيرلندياً كاثوليكيا.

نظرياً أو مبدئياً، وإن توقفنا عند المعايير الدستورية والقانونية أو عند الناموس الظاهر للسياسة، تلك المعمول بها في بلد ديموقراطي وفي «مجتمع مفتوح» (وفق تعبير الفيلسوف كارل بوبر)، ليس ما يحول دون فوز هيلاري كلنتون أو باراك أوباما، إن ظفر أي منهما بترشيح حزبه إياه، بمنصب رئاسة الولايات المتحدة (وبمنزلة الإمبراطور على العالم استطراداً)، غير ما قد يفتقران إليه في منافسة شريفة شفافة، تجري وفق القواعد المرعية وتحت «رقابة» الإعلام الحر وفي نطاق القيم السارية في الأنصبة الديموقراطية: برنامجاً جذاباً يلقى لدى الأغلبية قبولاً وحظوة وقدرة على الإقناع وطمأنة إلى كفاءة ونزاهة.

هذا ما يفيد به ظاهر الممارسة الديموقراطية، وهو الذي زيّن من دون شك لشخصيتين مثل «السيدة» هيلاري كلنتون و«الملوّن» باراك أوباما، خوض غمار الانتخابات الرئاسية وهما المتأتيان من فئتين: «جندرية» بالنسبة إلى الأولى وعرقية بالنسبة إلى الثاني، لم يسبق لأي من أعضائهما تولي الرئاسة الأولى أو مجرد السعي إليها. صحيح أن الشخصيتين المذكورتين لاتزالان بعيدتين عن تحقيق ذاك الهدف، إذ لايزال كل منهما في طور صراع فرض النفس مرشحاً (لا يمكنه إلا أن يكون أوحداً) عن الحزب الذي ينتمي إلى صفوفه، مساراً شاقاً عسيراً، وإن كان أوباما قد كسب جولته الأولى، في الانتخابات التمهيدية التي جرت يوم الجمعة الماضي في ولاية آيوا، وتلك، بالنسبة إليه، خطوة مهمّة ولكنها لا يمكنها أن تكون فاصلة، على ما دلت، على سبيل المثال، تجربة الرئيس السابق بيل كلنتون الذي كان قد أخفق في مرحلة آيوا إياها ولكنه فاز، في نهاية المطاف، بالترشيح ثم بالرئاسة.

الأمر -أمر الترشيح ناهيك عن أمر الرئاسة- أبعد من أن يكون قد حُسم، خصوصاً مع وجود لاعب ثالث، هو السيناتور جون إدواردز، وهذا قد يكون أقل حظوة من حيث الشعبية (والشعبية شأن مزاجي متقلّب لا يثبت على حال)، إلا أنه أرسخ قدماً في المؤسسة، إذ سبق ترشيحه نائباً للرئيس في انتخابات سنة 2004 إلى جانب آل غور. ولكن ظاهرة هيلاري كلنتون وباراك أوباما تستحق مع ذلك التوقّف عندها مليّاً، لأنها تمكّن من طرح هذا السؤال: هل تفي اللعبة الديموقراطية، في آلياتها المعلنة وأعرافها السارية وترتيباتها المعمول بها، لتمكين سيدة أو رجل أسود من حكم بلد مثل الولايات المتحدة حتى في صورة الالتزام الصارم والنزيه بتلك الآليات والأعراف والترتيبات؟ أم أنه من الخطأ والسذاجة قصر الحياة السياسية في ذلك البلد، أو في أي بلد سواه، في تجلياتها المعلنة تلك، لأن هذه الأخيرة ليست إلا بمنزلة «البنية الفوقية» لمحدداتِ نفوذ وموازينِ قوة، تقع في مرتبة أعمق منها، بنى ذهنية واجتماعية وأنثروبولوجية إن شئنا (هذا إن لم نشر إلى تلك العوامل الاقتصادية التي يحسبها البعض محرك التاريخ)، هي الفاعلة في توجيه الصراعات السياسية وحسمها؟

إذ كيف يمكن، من دون افتراض كهذا، تفسير رسوخ وسطوة تلك القاعدة غير المكتوبة التي كانت منذ قيام الولايات المتحدة دولة حتى يومنا هذا، مُلزمة لا محيد عنها أو تكاد، علما أنه لم يكرسها دستور ولا أملاها قانون، نعني تلك القاعدة القاضية بأن يكون رأس الدولة ذكراً «واسبيّاً»، منتميا إلى الـ«واسب» (حسب تسمية تتكوّن من الأحرف الأولى لـ«أبيض، أنكلوساكسوني بروتستانتي»)، فلم «تُخرق» تلك القاعدة إلا لدى انتخاب جون فيتزجيرالد كيندي، وكان أيرلندياً كاثوليكيا، رئيساً في سنة 1961، وقضى صريعاً، من دون أن ينهي ولايته، في سنة 1963. لن نذهب في الأخذ بنظرية المؤامرة إلى درجة الارتياب في أن يكون لاغتياله، على ذلك النحو الغامض الذي لم يجر استجلاؤه حتى الآن، علاقة بانتمائه المذهبي والإثني، ولكننا نقتصر على الإشارة إلى أن ذلك ما حصل للرئيس الوحيد الذي حكم الولايات المتحدة من خارج طائفة «الواسب».

وتمثل سطوة الواسب تلك تجلياً أقصى ودراماتيكياً، يقابله من الناحية الأخرى، في حضيض السلم الاجتماعي، تجل أقصى ودراماتيكي آخر هو منزلة الأفارقة الأميركيين، الذين لم يُقِل إقرار الحقوق المدنية منذ ستينيات القرن الماضي عثرتهم المزمنة، لنصاب تمييزي هو السمة التكوينية، العميقة والفارقة للمجتمع الأميركي، يوزع المواطنين إلى انتماءات دينية (أو «تسميات» denominations حسب المصطلح الشائع) وأعراقا وإثنيات، من دون نسيان التمييز بين الذكور والإناث يتخلل تلك التقسيمات جميعاً، مع ما يواكب كل ذلك من تراتب على صعيد السلطة والنفوذ، قد لا يكون البعد الاقتصادي إلا بعداً من أبعاده، ناتجاً عنه ومؤسساً له في آن، تدعمه إيديولوجيا مستشرية وراسخة (وإن لم تكن من طراز توتاليتاري) تجعل كل طرف يلزم مكانته لا يبارحها وقد يرتضيها.

ولأن الديموقراطية، وهي قائمة لا سبيل إلى إنكارها، تتأسس على قاعدة تلك البنية التي تمثل شرطها وظرفها، فإنها لا يمكن أن تنتج ما يزعزع تلك البنية، إلا إذا كانت قد جدّت في الولايات المتحدة ثورة طالت الأعماق ولم نلحظها.

وما لم يتحقق مثل ذلك، فإنه من المستبعد أن يبلغ السلطة العليا في الانتخابات الأميركية المقبلة، سيدة حتى إن كانت بمكانة هيلاري كلنتون، أو ملوّن، حتى إن كان بموهبة باراك أوباما، بحيث لا قد يعدو ترشح تيْنك الشخصيتين أن يكون من باب «الشهادة»، وقد لا يعدو ترشيح الحزب الديموقراطي لهما، إن تحقق، أن يكون إقراراً ضمنياً بعجزه عن الفوز، فقرر خوض حملة قيَمية بديلاً عن حملة سياسية.

* كاتب تونسي