درب الخيانة للصحافي علي بلوط: فصول من مكامن نظام صدام صدام... والمغامرة الفاشلة

نشر في 26-09-2007 | 00:00
آخر تحديث 26-09-2007 | 00:00

ينتقل الكاتب الى الحديث عن بداية غزو الكويت وحال الفوضى التي انتابت القيادة العراقية على مختلف مستوياتها نتيجة الغزو.

يذكر الكاتب حواراً دار بينه وبين سفير عراقي مهم ينتمي الى «العصب التكريتي»، كان يزور باريس مع عائلته لقضاء اجازة الصيف، عشية الغزو.

وحول مائدة الطعام في احد مطاعم «الشانزليزيه»، دار بين الكاتب والسفير حوار قصير حول موضوع الحشود، وإلى أي مدى سيذهب صدام في معركته ضد الكويت التي لا مبرر لها. «قلت للسفير: ان الحشود على الحدود بلغت حداً لا يمكن التراجع عنه، هل انتم ذاهبون في طريق ارتكاب غلطة العمر؟

ابتسم السفير وقال بكل ثقة: لا تقلق، ان الرئيس وضع لكل شيء حساباته. قلت: جوابك لا يرد على سؤال... سأطرح السؤال بصيغة مباشرة: هل هناك قرار حزبي أو رئاسي بغزو الكويت؟

رد السفير: أؤكد لك انه ليس هناك قرار بالغزو، لا في القيادة القطرية ولا عند السيد الرئيس. ولو كان القرار موجوداً لما كنت مع عائلتي هنا في باريس لقضاء اجازة، بل كان يجب ان أكون في سفارتي. كل ما في الأمر أن عملية الحشود محسوبة بدقة وستُحل المشكلة مع الكويت قبل أن أنهي اجازتي هنا في فرنسا. أجبته: ارجو ذلك من كل قلبي، لأنه اذا حدث الغزو، لا سمح الله، فإنكم ستتزحلقون (بقشرة موز كبيرة) من الصعب جداً أن تخرجوا سالمين منها، فالجميع يريد رأسكم ولن يكون لكم أي حليف. قال السفير: قلت لك لا تقلق، فالسيد الرئيس (صدام) حفظه الله واع ٍلكل هذه الأمور.

يوم الغزو

في اللحظة التي كنت أتحدث فيها مع السفير، كانت القوات العراقية تنفذ أولى مراحل غزوها للكويت. وفي الساعة السادسة من صباح اليوم التالي استيقظت على اخبار الغزو، فسارعت الى الاتصال هاتفياً بالسفير. قيل لي انه نائم. طلبت ايقاظه لأمر مهم جداً. وجاءه الصوت من الطرف الآخر شبه نائم.

سألته: هل حقائبك جاهزة؟

ـ قال: لا، ماذا عندك في هذا الصباح الباكر؟

ـ انصحك بالذهاب فوراً الى المطار وحجز مقعد على أول طائرة الى عاصمة وجود سفارتك. أو حجز طائرة خاصة. لأن (الجماعة) دخلوا الى الكويت، عكس ما كنت تقوله في الأمس. ان جميع أجهزة الاعلام في العالم تنقل هذا الحدث الآن بالصوت والصورة.

عرفت فيما بعد أن السفير وصل الى العاصمة المعين فيها عصر ذلك اليوم، حيث باشر عمله الدبلوماسي فوراً.

السفير هو نوري الويس، الصديق الشخصي لي، والمكان هو سفارة العراق لدى المملكة الأردنية الهاشمية، وهو - أي السفير - معروف بأنه عضو بارز وفعال في (حلقة التكارتة) المؤثرة الى حد ما في صناعة قرار صدام حسين.

ان هذا الحدث يمثل الدليل الأول على أن قرار الغزو اتخذه صدام من دون معرفة القيادة البعثية. وسأذكر أدلة اخرى تثبت هذا الزعم في مجالات لاحقة».

يتحدث الكاتب عن خطوات صدام الاولى في مرحلة ما بعد تنفيذ خطة الغزو.

«في اليوم التالي للغزو، وبينما كان العالم كله لم يستيقظ بعد من صدمة الغزو، عقد صدام اجتماعاً حضره عدد محدود جداً من الحلقة الضيقة المحيطة به بمن فيهم طارق عزيز، وذلك لبحث وتقرير الخطوات الواجب اتخاذها في حال تدخل الولايات المتحدة عسكرياً ضد الغزو، خاصة بعد صدور تهديدات غير واضحة المعالم حول هذا التدخل. تقرر في نتيجة هذا الاجتماع اتباع سياسة مرنة تجاه الولايات المتحدة وإبقاء الباب مفتوحاً أمام واشنطن. وقد رسمت في هذا الاجتماع حدود المرونة ووضعت الخطوط الحمر: كل شيء قابل للتفاوض ما عدا الانسحاب من الكويت.

ذكر لي طارق عزيز فيما بعد ان إشارات واشنطن الاولية لم تكن مشجعة على الاطلاق بأن الولايات المتحدة سوف تهضم احتلال العراق للكويت. وفي أحد لقاءاته مع صدام لبحث هذا الموضوع، قال له صدام: هل تعتقد ان الولايات المتحدة ستذهب الى الحرب ضدنا؟ قال عزيز: فوجئت بطرح هذا السؤال لانه يظهر ان صدام، وهو في خضم ادارة العمليات العسكرية، لم يحمل نفسه عبء قراءة التقارير التي أرسلتها اليه والتي تفيد ان واشنطن بدأت تقرع طبول الحرب وتستعد لها فور تبلغها أنباء الغزو.

عزيز قال لي: قلت للرئيس انه يجب ان نعمل حساباتنا منذ الآن على أساس المواجهة العسكرية مع واشنطن. لذلك اقترح ان نعمل على خطين متوازيين: الاول نحاول كسب ما أمكننا من الوقت من خلال محادثات طويلة مع واشنطن وغيرها، وذلك كي نعطي الوقت الكافي للعالم ليهضم الحقيقة التي خلقناها على الارض، وهي ان الكويت لم تعد موجودة على الخارطة العالمية كدولة مستقلة. أما الخط الثاني فهو ان نستعد منذ الآن لوضع شروط المساومة إذا لم ننجح في تحقيق الخط الاول، وفي حال اضطرارنا الى ذلك.

قال لي طارق عزيز فيما بعد: عندما سمع صدام كلمة (مساومة) اصبح كتلة من غضب ناري. طيلة الثلاثين سنة الماضية لم أرَ صدام في مثل هذه الحالة من الهياج. وبينما كان فكري مشغولاً بكيفية تهدئة غضب صدام، سمعت صراخاً آخر من أحد الحاضرين مصحوباً بالشتائم تبين لي انه صراخ علي حسن المجيد. في نهاية الاجتماع حيث بقي طارق عزيز صامتاً كأبي الهول، اتخذ المجتمعون، بناء على اقتراح صدام القرار التالي: إلغاء كلمة تسوية من قاموسنا السياسي في ما يتعلق بالكويت. ان أي اشارة، مهما كانت صغيرة، تصدر من جانبنا حول امكان الانسحاب ستفسر اننا قد ضعفنا. الموافقة على الشق الاول من اقتراح الرفيق طارق عزيز بإنشاء خطين متوازيين والاحتفاظ بالخط الاول (كسب الوقت) وإلغاء الخط الثاني (المساومة) مع رفض أي فكرة او اقتراح مستقبلي يشير الى خروجنا من الكويت».

عندما طرحت صيغة الاقتراح على التصويت، كانت عيون الحاضرين شاخصة كلها نحو صدام. وعندما قال صدام: أنا أوافق على هذا الاقتراح بشكل كلي، ارتفعت الايدي بالموافقة. وهكذا وضعت سياسة العراق بالاحتفاظ بالكويت قبل ان تنتهي العمليات العسكرية لاحتلال هذا البلد.

اللقاء مع القائم بالأعمال الأميركي

طلب صدام من طارق عزيز ان يستدعي القائم بالاعمال الاميركي، في غياب السفيرة غلاسبي التي غادرت العراق لقضاء إجازتها الصيفية بعد مقابلتها صدام. وفي السادس من شهر أغسطس وجد القائم بالأعمال جو ويلسون نفسه وجهاً لوجه مع صدام.

الوثائق الرسمية التي قرأتها حول هذا الاجتماع تتعدى ما جرى خلاله من حديث الى وصف لشكل ويلسون، حيث ذكر انه «رجل وسيم جداّ كممثل هوليوودي ذي شعر لامع وأناقة بالغة (ويلسون كان مؤخراً بطل فضيحة عانى منها البيت الابيض كثيراً. فهو السفير الذي أرسلته الـ CIA للتأكد من وجود صفقة مزعومة لليورانيوم اشتراها العراق من احدى الدول الافريقية. وجاء تقريره ينفي هذه المزاعم، مما دفع بعض مساعدي الرئيس بوش الى كشف اسم زوجته فاليري التي كانت تعمل في الـ CIA. وهذا العمل، حسب القوانين الاميركية يعتبر جريمة فدرالية. وقد أغلق ملف القضية - الفضيحة - أخيرا اثر تسوية اشترك بها الحزبان الجمهوري والديمقراطي والبيت الابيض على مستويات عليا).

افتتح صدام الاجتماع بقوله: لقد طلبت مقابلتك لبحث بعض الامور المستجدة بعد مقابلتي للسيدة سفيرة بلادكم. أود ان أبلغك ان مفاوضاتنا مع حكومة الكويت السابقة قد فشلت تماماً وأنت تعرف ماذا حدث بعد ذلك.

قال لي عزيز فيما بعد: ان ويلسون لم يكن في وضع يسمح له بأن يقول أي شيء له قيمة، خوفاً من ان يربط دولته بموقف لم تتخذه بشكل رسمي بعد. لذلك حافظ ويلسون على القواعد الدبلوماسية بكل دقة، ورد على صدام: نعم لقد قرأت كل التصريحات الرسمية المتعلقة بالموضوع. كذلك وضعني وزير خارجيتكم في صورة ما يحصل. نعم أنا على اطلاع بما يجري.

اعتبر صدام برودة جواب القائم بالاعمال بمثابة تحد، فرد بلهجة خارجة عن المألوف الدبلوماسي. قال: وأنا ايضاً على اطلاع كامل بكل ما يجري في واشنطن وأنا أتابع ذلك بكل تفاصيله الدقيقة. نحن نفهم ونتفهم أسباب ردود فعل واشنطن. ونفهم ونتفهم ايضاً ان ردود فعل الولايات المتحدة ستكون مشابهة لو أن ما حصل هنا في العالم العربي، حصل في أميركا اللاتينية أو افريقيا أو اوروبا أو اي مكان في العالم. لسنا مندهشين لإقدام الولايات المتحدة على رفض هذا العمل، خاصة انها ليست طرفاً فيه.

ثم بدأ صدام باستخدام لعبته المفضلة: الجزرة والعصا. لكنه مع ويلسون استخدم الجزرة المليئة بالنفط العراقي. قال: أنت تعرف ان النفط العراقي كان يباع لكم منذ استلامنا الحكم، حتى عندما كانت العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين بلدينا. وعندما أعيدت العلاقات في العام 1984، فان حجم علاقاتنا الاقتصادية تضاعف. وصلنا الى مرحلة حيث كنا نصدر لكم ثلث انتاجنا النفطي او ربما أقل من ذلك بقليل، وهذا سيستمر حتى اذا قررتم مقاطعة النفط العراقي بعد هذه الأحداث. أود ان أقول لك بكل وضوح ان زيادة كمية النفط المصدرة لكم لا ترجع الى عوامل اقتصادية او فنية، بل هي نتيجة قرار سياسي اتخذته أنا شخصياً.

تابع صدام: نحن نعرف جيداً سياستكم ومصالحكم في حماية النفط واستقراره. وهنا أود ان أسأل: أين هو الخطر على مصالحكم الذي يدفعكم الى الحديث عن اتخاذ عمل عسكري ضدنا؟ اذا أراد رئيس الولايات المتحدة ان يحافظ على هذه المصالح، فأنا أرى ان تأزيم العلاقات معنا عبر العمل الدبلوماسي او العسكري سيعطي مفعولاً عكسياً. اما اذا كان لديكم مصالح اخرى غير معلنة فهذا موضوع آخر. على كل حال، نحن نسعى الى الاستقرار والسلام، لكننا كلنا في هذا البلد ضد الاستسلام غير المشروع وضد سياسة التجويع ولن نقبل بهما مهما كانت النتائج. لقد جاع شعبنا لفترة ألف سنة ولن نقبل بعودة هذا الجوع. نريد ان نبني مع الولايات المتحدة علاقات طويلة المدى على أساس الشرف والكرامة. هذا اذا أرادت الولايات المتحدة ذلك.

صمت صدام قليلاً قبل ان يلقي في وجه القائم بالأعمال الاميركي (جزرته) الكبرى، قال بعدها: هذه الحرب هي حول مصالح مشروعة، ونحن على استعداد لإعطاء الولايات المتحدة ضمانات اكبر من خيال أي انسان في مجالات النفط وغيره. لقد قررت في البداية الا أقابلكم بعد ان اتخذتم قراراً بمقاطعتنا... لم أرغب في إرسال اشارة خطأ بأن هدفنا هو إقناعكم برفع المقاطعة او الحصار. هذا ليس السبب في مقابلتي لك اليوم. السبب هو شرح نقاط محددة تتعلق بمصالحكم قبل ان نصل الى طريق مسدود.

قال لي عزيز فيما بعد: بقي ويلسون ممتنعاً عن الكلام والتعليق على أي موضوع أثاره صدام. ربما لانه تلقى تعليمات من واشنطن. ولذلك، فقد حاول ويلسون، بأسلوب دبلوماسي، ان يختصر وينهي المقابلة فقال لصدام: سأنقل الى حكومتي اليوم كل ما قلته. واجبي ان أنتظر أجوبة حكومتي قبل ان أعلق بأي كلمة.

قام صدام بمناورة أخيرة، فقال انه لا ينصح واشنطن بالاعتماد على زيادة ضخ النفط السعودي للتعويض عن مقاطعة النفط العراقي. في تلك اللحظة لم يكن صدام على علم بنوايا السعودية التي اعتبرت انها الثانية، بعد الكويت، في لائحة صدام.

قال صدام لويلسون مستخدماً العصا هذه المرة: جيد. أريدك ان تعود الى حكومتك لكني أريدك ان تضيف شيئاً آخر. أنت تعرف ان علاقتنا اكثر من جيدة مع المملكة العربية السعودية، منذ العام 1975 الى الثاني من شهر أغسطس الجاري، وقد بلغت هذه العلاقات مداها الأوسع وبأعلى المستويات، التفاهم بيننا كبير حول كل الامور التي تجري في العالم العربي حتى الثاني من أغسطس، خاصة في ما يتعلق بالمصالح الاميركية في العراق وغير العراق. هذه العلاقات تخدم المصالح الاميركية في الدرجة الاولى وهي عنصر مهم لاستقرار المنطقة. ان اللعب بعلاقاتنا مع السعودية سيؤذي المصالح الاميركية وكذلك الأمن في المنطقة. لذلك نحن لا نفهم تصريحكم الذي تعبرون فيه عن قلقكم على أمن السعودية بعد احداث الكويت. إذا أردتم فعلاً حماية المملكة السعودية عليكم ان تفهموا ان ما يصلح للكويت لا يصلح للسعودية.

عندما أنهى صدام جملته وقف ويلسون معلناً هو - لا صدام - انتهاء المقابلة. ولم ينس وهو يودّع صدام ان يقول: أثمن عالياً جهود زملائي في وزارة الخارجية (العراقية). لقد فتحوا أمامي كل الابواب ابتداء من الساعة الثامنة صباحاً، كما أثمن عالياً رغبتكم في مقابلتي.

تصافحا. ثم غادر ويلسون المكان».

back to top