Ad

ثمة فارق كبير بين الدور القيادي الذي يمكن أن تلعبه مؤسسة أو جماعة نقابية أو مهنية بنجاح من أجل الديموقراطية، والدور الانفرادي الذي تلعبه في التصدي لسياسات القهر، الأخير يبدو يائساً، ولكنه في الوقت نفسه مثير للخيال والإعجاب، باعتباره الدليل على أنه لا يزال للمجتمع روح.

اهتمت وكالات الأنباء بالدور الذي يلعبه المحامون في التصدي للأحكام العرفية التي أعلنها الرئيس الباكستاني برويز مشرف، ويعتقد كثيرون أن رجال القانون بوجه عام وقضاة المحكمة الدستورية بالذات يلعبون في هذه الحالة دور «ضمير المجتمع».

ضمير أم روح

لا شك أن مناهضة الاستبداد والحكم العسكري رسالة ودور عظيم لهذه الفئة المتميزة من طلائع الشعب الباكستاني، ولكن أن نطلق على هذا الدور «ضمير المجتمع» خطأ قد لا يغتفر.

فأولاً، قد لا ينطلق الدور المناهض للحكم العسكري بالضرورة من إيمان حقيقي بمبادئ الحرية والديموقراطية، بل قد يكون مدفوعاً في الواقع بالمصالح السياسية الجارية لتيار أو حزب سياسي أو حركة عقيدية، وفي هذه الحالة لن نستطيع أن نفسر تراجع منبر أو جماعة مهنية لعبت دوراً كبيراً في التصدي للسياسات التسلطية والاستبدادية في لحظة معينة، عندما تتصالح أو تتبنى وتروج لهذه السياسات في لحظة تالية، ووقع ذلك كثيراً في السياسة الباكستانية، ولن يكون من المناسب أن نصف هذا التراجع بأنه خيانة أو موت للضمير.

ومن ناحية أخرى، فإن ظاهرة قيام منبر أو نقابة أو جماعة مهنية أو مؤسسة نوعية ما بالدور الطليعي في التصدي للسياسات والقرارات الاستراتيجية التسلطية ظاهرة مثيرة للغاية، ولم يتم استيعابها حتى الآن بصورة كافية، يكاد يكون في الظاهرة شيء ميتافيزيقي إلى الحد الذي يبرر لدينا أن نطلق عليها «روح المجتمع» بأكثر مما هي «ضمير المجتمع»، وبتعبير آخر ما تثبته العمليات البطولية للتصدي للسياسات الاستبدادية، وتدابير البطش ليس أن المجتمع لا يزال فيه ضمير فهذا شيء طبيعي ومنطقي تماماً، وإنما ان المجتمع لا تزال فيه روح، وهو أمر ليس مضموناً بالضرورة، فبعد عقود طويلة من السياسات التسلطية أو الشمولية وأوضاع البطش والقهر قد «يموت» المجتمع فعلا أو يفقد روحه بصفته كياناً عاماً، ومن ثم تكتسب العمليات البطولية للتصدي للبطش والقهر أهمية استثنائية باعتبارها دليلاً على أن المجتمع لا يزال حياً... أو أنه يستعيد الحياة، أي تعود إليه الروح.

ويسحر هذا المجاز الخيال العربي أكثر كثيراً من فكرة الضمير المتيقظ، ولهذا كان لرواية توفيق الحكيم «عودة الروح» نفوذ كبير على المصريين عندما صدرت في عقد الثلاثينيات من القرن العشرين. وليس من المبالغة أن ننسب لها بعض النفوذ والدور في تحريك الثورة العسكرية عام 1952، فهي بنهاية المطاف كانت جزءاً من الدعوة لإيديولوجيا المستبد العادل الذي ترجمته الناصرية، ومن الطريف أن عودة توفيق الحكيم لهذا المجاز في كتاب صغير باسم «عودة الوعي» صدر له في بداية الثمانينيات لم تحقق نجاحاً يذكر، لأن الكتاب لم يخاطب أو يحرك الروح!

وطالما أننا قفزنا من باكستان إلى مصر يجب أن نعيد الحق لأصحابه، فنقابة المحامين المصرية سبقت زميلتها الباكستانية بكثير في القيام بدور «الروح» المحركة للمقاومة الديموقراطية، وبدأت النقابة هذا الدور بالتركيز على معارضة اتفاقية «كامب ديفيد» بعد أن نجح الرئيس السادات في سحق المعارضة للاتفاقية ومصادرة المنابر الأخرى جميعها المعارضة لزيارته للقدس ولفلسفته في المصالحة الانفرادية مع إسرائيل، واستمر الدور البطولي لهذه النقابة العريقة حتى خمدت فيها الروح نحو منتصف الثمانينيات.

وحدث ذلك بأن فقدت النقابة روح البطولة ومستها روح التفاهة، فظل قيادات وفدية تتنازع مع قيادات ناصرية بشأن النفوذ والدور، ووصل النزاع الى أحط الأساليب فخسر الطرفان النقابة، وذهبت بأسرها إلى حركة «الاخوان المسلمين»!

متى يتحقق الإلهام؟

ولكن الظاهرة: أي قيام مؤسسة، نقابة، جماعة مهنية، صالون ثقافي، جمعية أهلية، أو أي منبر آخر بالدور الطليعي أو ربما الدور الاستثنائي في مناهضة الهيمنة وسياسات القهر. هذه الظاهرة ظلت فاعلة في الحياة المصرية، وفي عدد آخر من البلاد العربية. كل ما حدث هو أن نقابة المحامين فقدت هذا الدور مؤقتاً، وانتقل أداء هذا الدور لفترة إلى حركة حقوق الإنسان وبالذات إلى المنظمة المصرية لحقوق الانسان، ثم إلى مركز القاهرة لحقوق الانسان، وسريعا ما ذبلت هذه الأدوار الأخيرة مقابل الصعود الكبير لدور نقابة الصحافيين في الدفاع عن الحريات العامة، ومثلت معركة القانون 93 لعام 1995 المناسبة الوحيدة التي انكسرت فيها الهيمنة المطلقة للدولة الاستبدادية، ورغم ذلك فانتصار نقابة الصحافيين لم يلهم المجتمع ككل، ولسبب غير معروف أو غير مفهوم حتى الآن لم تنجح نقابة الصحافيين في حفز عقل المجتمع ولا تحريكه مادياً للنضال من أجل الحريات.

المذهل فعلا أن انتصار نقابة الصحافيين في أكثر من معركة تالية لم يضئ الوجدان المصري بالقوة المتوقعة، تحقق إنجاز كبير جداً يتمثل في التوسع المشهود في حرية الرأي والتعبير، ولكن النضال الديموقراطي في مصر لم يتلق قوة دفع تتفق مع ضخامة هذا الإنجاز.

وهناك حالات أخرى يمكن تسكينها في الحيز الوسيط بين الحالة الطليعية الفذة لنقابة المحامين المصريين في عقد السبعينيات وبداية الثمانينيات والانتصار الضخم في طبيعته، ولكن الضئيل في تأثيره لنقابة الصحافيين، الظاهرة الأكثر نبلاً للنضال من أجل الديموقراطية في التاريخ أو الجغرافيا العربية هي حركة «نادي القضاة المصريين» خلال عامي 2005 و2006.

النادي ظل يناضل وحده تقريباً من أجل قانون ديموقراطي وإصلاحي للسلطة القضائية، وما ان بدأت حركة كفاية في الهبوط بعد الانتصار الانتخابي للنظام الحاكم حتى بدا أن القضاة وحدهم يعانون الوحدة في الساحة، وراج في الوجدان السياسي للمصريين أن الأمل يتعلق بالقضاة المناضلين من أجل قانون جديد للسلطة القضائية يحقق العدل ويملأ الدنيا نوراً، ومع ذلك فقد بدا هذا الدور الطليعي معزولاً، ومن أغرب ما حدث في هذا الإطار أن نقابة المحامين نفرت من مجرد إعلان التأييد لنادي القضاة. ولا يزال علينا أن نقدم تفسيراً أعمق لهذه الظاهرة المرضية، أو بتعبير آخر بدا الاعتماد على القضاة موقفاً مفارقاً، فهو يستدعي للذهن ما قاله اليهود لسيدنا موسى «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون»، فقد «قعدت» البلد كلها باستثناء حفنة من الشباب، ولذلك هُزم نادي القضاة، وتراجع أو انهار دوره بصورة مفاجئة رغم ضخامة الشخصيات والبطولات والأحلام!

انتقال موقع القيادة أو منابع الإلهام في الدور المناضل بوجه سياسات الاستبداد والقهر أكثر ظواهر السياسة في مصر وباكستان والعالم غموضاً.

فجاذبية هذه الفكرة لا تقاوم، أما تأثيرها الفعلي فهو محاط بالشكوك، ويقول الواقع إن من السهل للغاية على أي نظام مدجج بالتشريعات المقيدة للحرية والأسلحة السياسية الأخرى أن ينقض على أي منبر أو مؤسسة نقابية أو سياسية أو ثقافية معزولة حتى لو كانت تحظى بتأييد ودعم جماعة مهنية كبيرة ومؤثرة مثل حالة المحامين أو الأهم القضاة.

وثمة فارق كبير بين الدور القيادي الذي يمكن أن تلعبه مؤسسة أو جماعة نقابية أو مهنية بنجاح من أجل الديموقراطية والدور الانفرادي الذي تلعبه في التصدي لسياسات القهر، الأخير يبدو يائساً... ولكنه في الوقت نفسه مثير للخيال والإعجاب، باعتباره الدليل على أنه لا يزال للمجتمع روح.

*كاتب مصري