الفلسطينيون بين الوطنية والوطن
الفلسطينيون يواجهون خيارين يمتنع الحسم بينهما، لأنهما يترجمان نفسيهما باستحالة المطابقة بين الوطنية والوطن: فإما المطالبة بالوطن كله، وهذا لا يتحقق إلا في أفق «الأمة»، أي بالتضحية بالوطنية، وإما القبول بهذه الأخيرة، وهذه لا يمكنها إلا أن تعني القبول بجزء من وطن، لا ينفكّ يتقلص ضمّاً وقضماً.
لماذا أخفقت الوطنية الفلسطينية في أن توجد، وجوداً سياسياً ناجزاً، مع أن اجتراح مثل تلك الوطنية هو الاستراتيجية (نكاد نقول الوحيدة) المتاحة للتعويض عن وطن ثم لاستعادته، لبعثه فكرةً قبل إنشائه كياناً؟أما الداعي إلى طرح هذا السؤال، فهو اختبار وعود مؤتمر أنابوليس (ذلك الذي يُقدّم على أنه أطلق مساراً مؤداه، في نهاية مطافه، قيام الدولة الفلسطينية) اختباراً غير ذلك المعهود، الذي يتوقف عادة عند سبر النوايا الإسرائيلية والأميركية أو يقتصر على قرّاء ميزان القوة (على ما لهذه الجوانب من أهمية حاسمة) ليخلص إلى نقطة جوهرية، كثيراً ما يُصار إلى إهمالها، هي المتعلقة بمساءلة الوطنية الفلسطينية في وجودها نفسه، شرطاً للتسوية سابقاً على ما عداه، على ما يفترض أنه البداهة عينها.كنا، في مقالة سابقة في «الجريدة»، قد توقفنا، وإن بإيجازٍ قد يكون مخلاً، عند ما اعتبرناه قصور الوطنية الفلسطينية في اجتراح ذاتها، وأعدنا القصور ذاك إلى عوامل ليست خاصة وليست عينية، بوصفها تندرج ضمن السمات التاريخية والتكوينية لمنطقة هي تلك الشرق أوسطية الشامية، وما حفّ بمسار انتقالها من الحيز-الزمن العثماني إلى ما بعد الحقبة الاستعمارية، انتقالاً لم يفضِ، على ما كان الأمر في حالات أخرى عربية وغير عربية، إلى انبعاث كيانات وطنية، بل إلى قيام كيانات حرِجة، بدت في نظر بُناتها قبل سواهم فاقدةً شرعية الوجود، تنكر ذاتها بحثاً عن أفق «قومي» يحتويها من ناحية، مع سعيها إلى تصليب عودها كدول من ناحية أخرى، وهو المسار الذي ترجم عن نفسه في الشأن الفلسطيني على نحو بالغ المأساوية، طالما أن مشروع وطنية أخرى، بديلة وافدة ومنبتّة، هو المشروع الصهيوني، قد حلّ محل ذلك الفلسطيني، فلم يسرق منه الأرض فحسب، بل كذلك أفق تطوره التاريخي، والطبيعي إن جازت العبارة، نحو الاستواء واقعة وطنية قائمة الذات... تلك هي على الأرجح الخصوصية الأبرز للمعضلة الفلسطينية، وقد أخفقنا غالباً في تبيّنها ناهيك عن تحليلها.غير أن لحظة التقاء الحالة الفلسطينية مع محيطها الإقليمي المباشر (من حيث التعذر الوطني) كانت أيضاً لحظة افتراقها عنه، وذلك بسبب العامل الإسرائيلي إياه. فهذا الأخير، إذ سعى إلى حرمان الوطنية الفلسطينية من أسباب الوجود، وحلّ محلها حيزاً ترابياً وأفقاً تاريخياً، إنما أوجد، من وجه آخر، الحوافز لبلورتها أو هكذا يفترض، بحيث كان من شأنه، أقله نظرياً، أن يدفع حركة التحرر الوطني الفلسطينية إلى الاندراج في مسار «تقليدي» أو «معهود»، كحركة تحرر تخترع وطنيتها في «جدل» مع المحتل ومن خلال مقارعته، فتستخلص وجودها منه، بمعنى من المعاني، وعبر التصدي له. وقد أوحت حركة التحرر الوطني الفلسطينية، لردح من الزمن، بأنها قد أخذت ذلك المنحى وسارت فيه، لا سيما تحت قيادة الراحل ياسر عرفات، ذلك الذي جعل من «استقلالية القرار الفلسطيني» معركة أساسية من معارك نضاله، حتى إن وجد نفسه يخوض تلك المعركة ضد وصاية «الأشقاء» في المقام الأول. وقد بدا لوهلة أولى، وقبل التطورات الأخيرة، أن الوطنية الفلسطينية قد قامت واقعاً ماثلاً، وحازت اعتراف العالم بل اعتراف العدو، ففاوضت، بصفتها تلك، في أوسلو وبعده، وظفرت بحيز ترابي -استوت عليه «سلطة وطنية»- صحيح من دون الدولة المنشودة، ولكن تم القبول بها كمرحلة تفضي إليها، أقله حسب من ساندوا تلك الخطوة.ولكن الانطباع ذاك ما لبث أن تبدى خاطئا خلّباً، ليس فقط لأن مسار التسوية التي أطلقتها اتفاقات أوسلو قد آل إلى فشله الذريع والمعلوم والمُبرمج من قبل الدولة العبرية، وليس فقط لأنه اتضّح بأن هذه الأخيرة قد انتقلت من طور عدم الاعتراف بالوطنية الفلسطينية إلى طور الإجهاز عليها تدميراً منهجياً على ما فعلت، متذرعةً بالانتفاضة الثانية، خلال عهدي أرييل شارون، ولا لأنه تجلى بأن العرب إنما سلموا بـ»استقلالية القرار الفلسطيني» ليس من باب الإقرار الإرادي بل من باب التخلّي، والانصراف إلى الهموم الوطنية أو إلى مشاغل استراتيجية من طبيعة أخرى، بل اتضّح خصوصا وبالأساس أن الوطنية الفلسطينية لم توجد، ولم تتجسد كياناً سياسياً جامعاً يأتي قيام الدولة ليكرسه ذاتاً اعتبارية، بل مازالت في حكم التشتت والتشرذم والتشظّي، بلغت مبلغ الاقتتال الأهلي، الذي يتنازع أرضاً لم تتحرر وسلطة لم تر النور مستقلّةً وقد لا تراه.قد يساق في تعليل ذلك أسباب كثيرة، تنسب المسؤولية إلى هذا العامل السياسي أو إلى ذلك الاعتبار الإيديولوجي أو تخوّن أو تشكك في الكفاءة، لكن الأسباب تلك، وكثيراً ما يتم إيرادها، فرادى أو مجتمعة، تبقى من دون النفاذ إلى جوهر الإعضال الفلسطيني في خصوصيته المطلقة التي لا سبيل إلى تجاوزها أو مداورتها، ذلك الذي مفاده أن الفلسطينيين يواجهون خيارين يمتنع الحسم بينهما، لأنهما يترجمان نفسيهما باستحالة المطابقة بين الوطنية والوطن: فإما المطالبة بالوطن كله، وهذا لا يتحقق، إن تحقق، إلا في أفق «الأمة»، أي بالتضحية بالوطنية، وإما القبول بهذه الأخيرة، وهذه، في الحالة الفلسطينية تخصيصاً، لا يمكنها إلا أن تعني القبول بجزء من وطن، لا ينفك يتقلص ضمّاً وقضماً.لعل الإعضال الفلسطيني، في خصوصيته التي تمنع قياسه على أي حالة احتلالية أخرى، يكمن في استحالة المطابقة هذه بين الوطنية والوطن، وفق الساري حالياً، قبولاً أو اعتراضاً... وهو إعضال لا يوجد في الأفق المنظور ما يبشر بإمكان حله وتذليله وتجاوزه، إلا بالعودة ربما إلى مشروع الدولة الديموقراطية الثنائية القومية... فهل كانت إسرائيل، نكاد نقول على جاري عادتها، سبّاقة إلى فهم ذلك، مما يفسر إصرارها على نيل الاعتراف بـ»يهودية» دولتها، شرطاً لكل تفاوض؟* كاتب تونسي