هدفان وراء رواية بعض تفاصيل هذه الحادثة النموذجية: أولاهما، أن السياسة الهادئة والهادفة لأي بلد ضعيف (لبنان) تمكنه من القفز فوق حواجز الأزمات الساخنة مع البلد القوي (سورية)، وبالتالي السعي إلى التغلب على تلك الأزمات، أو على الأقل تجميدها. وثانيهما، إثبات النظرية القائلة بأن «الطبع يغلب التطبع دائماً». بشكل عام، فإن العلاج الوحيد لمثل هذه الحالات هو رسم حدود التعايش بين الفريقين ضمن إطار النوايا الحسنة دون التخلي عن الواقعية في ما يمتلك الطرفان من قدرة، أو ربما من رغبة في إلحاق الأذى، أو الخير، بالطرف الآخر.

Ad

ما يحدث اليوم من أزمات بين لبنان وسورية ليس جديداً. حدث مثله، وتكرر حدوثه، منذ الأربعينيات من القرن الماضي، وبالتحديد مع خروج الوصاية الفرنسية من البلدين، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. لكن سوء المعالجة منذ البداية الناتج عن سوء الفهم لخصوصيات الطرفين، جعل كرة الثلج المتدحرجة من قمة الجبل تقسو وتزداد صلابة. وقد ساهم «علماء» السياسة، ولا يزالون، في تنميتها حتى تحولت من «عقدة» نفسية يسهل علاجها، إلى «حالة» مستعصية الشفاء.

فالضعيف لا يزال يُصر على عدم الاعتراف بضعفه، لأن الضعف في مفهومه الخاطئ يؤدي الى الاستسلام الكامل والمهين للشعور الوطني والشخصي. والقوي، بدوره، يُصر على خطأه في ممارسة لعبة القوة إلى أبعد من حدود العنجهية والتكبّر، معتبراً أن هذه الممارسة الخاطئة أيضاً تحفظ له حقوقه الوطنية والقومية والشخصية معاً. فالفريقان على خطأ. والعلاج – إذا تولدت الرغبة والإرادة لذلك- بسيط، هو حبة اسبرين لصداع مؤلم. ذلك أن يعترف الضعيف (لبنان) بأن وضعه الجغرافي يمثل الحديقة الداخلية لأمن القوي (سورية) القومي، ويتصرف على هذا الأساس بلا زيادة أو نقصان. كذلك أن يتخلى القوي (سورية) عن فرض الحقائق التاريخية والجغرافية باستخدام العضلات لا العقل والمنطق، وأن يجسد مبدأ حسن الجوار بشكله الحضاري، وأن يقف على حدود أبواب الجار عارضاً المساعدة، لا أن يفرض هذه «المساعدة» بالقوة وبطرقه الخاصة المعروفة، واذا لم تطبق هذه المعادلة بصدق وشفافية، فان الكارثة واقعة لا محالة، ولن توفر هذه الكارثة المحيط العربي الذي يعيش فيه لبنان وسورية معاً.

* * * * *

في العام 1968، قرر رئيس جمهورية لبنان حينذاك شارل حلو تكليف الدكتور عبدالله اليافي (رئيس وزراء لمرات عدة) بتشكيل الحكومة الجديدة. قبل ساعات من صدور مرسوم التكليف عرفت بالأمر من إلياس سركيس (كان وقتها يشغل منصب مدير عام رئاسة الجمهورية، قبل أن ينتخب رئيساً للجمهورية في عام 1976)، ولم يكن اليافي مرشحاً لهذا المنصب؛ لذلك عندما أبلغته بالأمر ظهرت على وجهه علامات العجب وعدم التصديق والسرور معاً، وحسم الموقف رنين هاتفه.

على الطرف الآخر كان إلياس سركيس يدعوه الى لقاء مستعجل مع شارل حلو كي يتسلم مرسوم التكليف. وبرزت مشكلة لوجيستية، سيارة اليافي وسائقه لم يكونا حاضرين في ذلك الوقت، عرضت أن انقله بسيارتي الصغيرة، فوافق. وعندما وصلنا إلى باحة القصر الجمهوري في منطقة سن الفيل، كان الخبر قد وصل أسماع عدد من الزملاء الصحافيين وكانوا بالانتظار مع آلات التصوير. التقطت صورة اليافي خارجاً من سيارتي، وأنا وراءه، ونشرت الصورة وقتها في الصفحات الأولى بعدد من الصحف اللبنانية. ولأن سورية كانت، وما تزال، تراقب الوضع في لبنان بالصوت والصورة، فإن هذه الصورة وصلت الى مكتب عبد الكريم الجندي مدير الأمن القومي السوري.

بعد شهر تقريباً، لم استغرب اتصال الجندي بي هاتفياً في الصباح الباكر، حيث دعاني للمجيء لرؤيته في دمشق «بأسرع وقت ممكن». علاقاتي بالجندي كانت كأي علاقة صحافي بمسؤول سياسي أو أمني. كل واحد يفتش عن وسيلة استخدام الآخر لخدمة أغراضه المهنية.

عبد الكريم الجندي، كما ذكرت، كان يشغل منصب مدير الأمن القومي في سورية خلال فترة حكم صلاح جديد الذي اعتقله حافظ الأسد خلال حركته التصحيحية في أكتوبر 1970، وأبقاه في السجن مع عدد من رفاقه أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث أكثر من 25 سنة دون محاكمة. ولم يطلق سراحه إلا بعد أن تأكد الأسد أنه مصاب بمرض عضال، وأنه لن يعيش أكثر من أشهرقليلة.

في تلك الفترة، فان مجرد ذكر اسم عبد الكريم الجندي، كان يبعث الرعب في النفوس. كان السوريون يتندرون بأن الجندي «سجن نصف الشعب السوري، بينما تمكن النصف الآخر من الهروب إلى خارج البلاد». وعلى الرغم من انتمائه إلى الطائفة الإسماعيلية، فإن الجندي كان شديد الولاء لصلاح جديد العلوي، وكذلك شديد الكره لحافظ الأسد الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع بالإضافة إلى عضو القيادة القطرية للحزب. وقد لعب صلاح جديد على نقطة الضعف هذه لدى الجندي، فمنحه صلاحيات واسعة في مجال الأمن القومي لاقامة التوازن السلطوي داخل الحزب، مع ما يمثله حافظ الأسد من سيطرة شبه كاملة على الأجهزة العسكرية للحزب. ولهذا، عندما اعتقل الأسد صلاح جديد خلال حركته التصحيحية، أيقن الجندي أنه مقتول لا محالة، فاتصل هاتفياً مستخدماً الخط الحزبي المباشر وتحدث مع سكرتير الأسد علي ظاظا. كان حواراً مختصراً جداً.

- قال الجندي: أين معلمك؟

- ردّ ظاظا: غير موجود الآن. هل من رسالة؟

- قال الجندي: نعم. قل لمعلمك إن من يعتقل عبد الكريم الجندي لم يخلق بعد. اسمع ... النغم.

يقول ظاظا في ما بعد: «سمعت طلقة مسدس من خلال التلفون لم أعرف سبب إطلاقها وعلى من أطلقت. ثبت في ما بعد أن الجندي كان يمسك سماعة الهاتف بيده ومسدسه باليد الأخرى مصوباً الى رأسه»، والنغم كان صوت الرصاصة التي اخترقت دماغ الجندي وقتل على الفور.

هذه العملية الانتحارية ليست غريبة عن شخصية الجندي. فهو مصاب كما يؤكد الكثير من معارفه، بداء تعدد الشخصيات (شيزوفرينيا)، مضافاً إليه حبه للعنف وفي الوقت نفسه ولعه للموسيقى الكلاسيكية، وكرهه الشديد لكل ما هو أميركي، حتى انه كان يعتبر أي سوري يشرب «الكوكا كولا» عميلاً أميركياً خطيراً يستأهل التحقيق ثم التعذيب قبل السجن والإعدام دون محاكمة.

(يتبع)

 

كاتب لبناني