تستدعي التطورات السياسية الأخيرة، ولا سيما تلك المتمثلة في الاستجوابات والتدوير والتشكيل، مثلما تستدعي تجربة حكومات الشيخ ناصر المحمد المتتالية، وقفة لإعادة النظر في آليات العمل الحكومي والنيابي للوصول إلى صيغة تضمن الخروج من الحلقة المفرغة التي تتناسل تأزيماً وتدويراً وإعادة تأزيم.

Ad

ولعل ما يدفعني نحو الدعوة إلى التغيير هو اعتقادي بأن المسلّمات والثوابت التي اتفق عليها الكويتيون طوعاً لناحية شكل الحكم وتركيبة النظام والتي تحمل ايجابيات جمة، من المؤسف أنه لا يستفاد منها للتطوير، بعدما تأكد أنها لا تعكس نفسها في التطبيق، إما لقصور في المبادرة، أو لاختلاف اللمسات الشخصية، أو للظروف الموضوعية التي تجعل التصادم بين السلطتين بديهيا في غياب الضوابط السياسية الضامنة لبقاء الحكومات ورحيلها.

ليست المسألة مسألة «حكومة قوية» و«حكومة ضعيفة» ولا هي قضية «حكومة ضعيفة ومجلس قوي». فهذه التعابير دخلت قاموس الخطاب السياسي الكويتي واكتسبت قوة الحقيقة بلا تمحيص ولا تدقيق... ومن غير إغفال الأداء المتنوع باختلاف الشخصيات والظروف، فإن مقياس قوة الحكومة الأساسي في النظم الديموقراطية البرلمانية يتأتى من دعم الأغلبية النيابية إياها، كما أن عوارض ضعفها ووهنها تنجم عن فقدانها الأغلبية. فمعظم حكوماتنا التي تعرضت للاهتزاز كانت تحمل علتها بأسلوب تشكيلها وبهلوانية توازناتها القائمة على كل المعايير عدا الكفاءة (الكتل البرلمانية، القبلية، الطائفية، العائلية) مما جعلها عاجزة عن أن تعكس تركيبة مجلس الأمة أو أن تفرض عبر مميزات اعضائها هيبة واحتراماً يجعلان النواب يترددون قبل تصيدها في ثغراتها ومخالفات وزرائها.

لا طائل من سرد الأمثلة عن الأداء الحكومي المتردد والضعيف الذي يحاول ما أمكن الهروب من التصويت لاسيما التصويت على الثقة بالوزراء المستجوبين. ولا طائل من البراهين على تجنب الحكومات مواجهة القضايا المهمة والخلافية بالامتناع عن تقديم مشاريع القوانين. فالكل يعرف هذا النمط من الأداء الذي يترك فراغاً يملأه النواب حسب قناعاتهم أو مصالحهم مما يعرضهم للاتهام بالتعدي على صلاحيات الحكومة. لذا لابد من آلية تمنع الحكومات من التعامل مع النواب «على القطعة»، ومن السعي إلى تأمين الأكثرية حين تضطر إلى تمرير مشروع، خصوصاً أنه لا يتحصل لها ذلك إلا عبر مساومات على الحقائب والمناصب وتوظيف الأنصار ومنح الاستثناءات، مما يكلف المال العام ويكلفها أيضاً اخلاقيا وسياسياً ويؤدي أيضاً إلى استجوابات.

لا تتحمل الحكومات وحدها مسؤولية هذا الخلل، بل تتحمله كذلك الكتل النيابية التي لا تقوم على مبادئ ومواقف واضحة وتترجم عدم انسجامها بمنحها أعضاءها حرية التصويت وإعفائهم من الالتزام.

انها مجموعة التباسات في الانتظام السياسي تجعل النظام البرلماني هجينا وبلا مقياس، فكيف تشارك، على سبيل المثال، كتل في الاستجواب في حين أنها ممثلة في الحكومة؟ وكيف للتكتلات التي ترفع لافتات اسلامية وليبرالية أن تبني مواقفها على حسابات قبلية أو طائفية أو عائلية؟ وكيف تتركب كتلة المستقلين من مجموعة يدعي كل واحد منها انه مستقل؟

ملّ الشعب الكويتي الأزمات، بل انه متضرر في رزقه ونمو اقتصاده وفي تجربته الديموقراطية. ولن يجدي بالطبع اللجوء إلى حل مجلس الأمة إذا لم تتغير الاتجاهات النيابية والممارسات، ولا تشكيل حكومة جديدة إذا بقيت تتألف بالأسلوب نفسه وتقسم اليمين ثم تبحث عن الأغلبية.

لا داعي لمعاودة التجريب. ويستطيع الكويتيون أن يتعلموا مما جرى وأن يستخلصوا العبر من أجل التغيير والتطوير.

أما العنوان فهو أحزاب سياسية واضحة المبادئ والمسلّمات الوطنية، وحكومة تمثل أكثرية واضحة في مجلس الأمة وتحظى بالثقة الالزامية على أساس البيان الحكومي. حينئذ ينتظم العمل السياسي بين المجلس والحكومة فتتشكل موالاة واضحة ومعارضة واضحة، ويتمكن الوزراء من العمل، والنواب من المحاسبة، والناخب من تحديد الخيارات، وكل ذلك تحت مظلة حكم موحد الصف والكلمة والقرار.