Ad

كعك العيد هو بلا جدال أشهر المخبوزات وأكثرها انتشاراً بين المسلمين، ولا يعرف على وجه اليقين متى بدأ المسلمون عمل الكعك في عيد الفطر، وإن كانت منطقة المشرق العربي هي الحاضنة الأولى لهذه الظاهرة.

ولعل أول ذكر لكعك العيد في المصادر التاريخية جاء مقترنا بالدولة الاخشيدية التي حكمت كلا من مصر وبلاد الشام منذ عام 323هـ وحتى سقوط أملاكها في أيدي الفاطميين عام 358هـ، فقد قام أحد وزراء الاخشيديين بعمل كعك حشاه بالدنانير الذهبية، وقد أطلق الناس عليه وقتها اسم «افطن له» أي افطن للدينار بداخله.

ويبدو أن الفاطميين هم الذين طوروا هذه العادة وأكسبوها أبعاداً شعبية في إطار محاولاتهم لاستقطاب رضاء الرعية بالرسوم الموسمية، فقد توسع الفاطميون في العناية بكعك العيد حتى أنهم جعلوا له إدارة حكومية خاصة عرفت باسم «دار الفطرة» وكانت هذه الدار تهتم بتجهيز الكميات اللازمة من كعك العيد وأصناف أخرى من المخبوزات، منها صنف اشتهر باسم كعب الغزال وهو نوع من الكعك المحشي بالبلح.

ويشكل إنتاج دار الفطرة من أصناف الكعك عماد «سماط العيد» الذي يحضره الخليفة ويفتتحه بنفسه مظهراً الفطر بتناول واحدة من كعكات العيد.

والعمل يبدأ في إعداد هذه الكميات الهائلة من كعك العيد من شهر رجب وينتهي في منتصف رمضان، ويتكلف ذلك دوماً مبالغ كبيرة من المال بلغت في إحدى السنوات 19 ألف دينار ذهبي استخدمت لشراء الدقيق وقناطير السكر واللوز والجوز والفستق والسيرج والسمسم والعسل وماء الورد والمسك والكافور.

وطبقاً لتقاليد البلاط الفاطمي فقد كان إنتاج دار الفطرة يوضع في سماط واحد هائل الحجم، ليبدو كجبل عظيم أمام شباك القصر الفاطمي، وبعدها يطل الخليفة من نافذة المنظرة ويمد يده لقطعة من الكعك يلتهمها على مرأى من الناس مظهراً بذلك الفطر وانتهاء شهر الصيام عقب صلاة العيد، ثم يجلس في منظرة القصر ليرى بعين رأسه الناس وهي تنهب الكعك لتأكله أو تقوم بإهدائه أو حتى تقوم ببيعه في أسواق المدن والقرى البعيدة عن القاهرة.

ورغم محاولات صلاح الدين الأيوبي للقضاء على كل ما يمت بصلة للخلافة الفاطمية الإسماعيلية المذهب ونجاح جهوده في القضاء على تيار التشيع في مصر، بيد أن كعك العيد ظل ظاهرة تستعصي على كل سعي الى وقفها حتى أن بعض أمراء البيت الأيوبي احتفظوا بالطباخات اللاتي عملن في القصور الفاطمية لإنتاج الكعك. ومن أشهرهن «حافظة» الطباخة التي عرفت بعمل كعك شهي عرف باسمها «كعك حافظة» وكان مضرب الأمثال في الكعك الجيد.

أما المماليك فقد سايروا عادة القوم في العناية بكعك العيد، فكان لديهم أحد أوجه البر والصدقات التي توزع على الفقراء حتى لا يحرموا منه في عيد الفطر، ونجد في وثائق الوقف الخاصة بالمدارس التي شيدها سلاطين المماليك أكثر من إشارة لعمل الكعك وتوزيعه على موظفي الجوامع والمدارس وعلى المتصوفة بالخوانق، وكذلك على تلاميذ المدارس وأطفال الكتاتيب. ومن أشهر هذه الوقفيات تلك التي تخص مدرسة الأميرة «تتر الحجازية» التي نص فيها على توزيع نوعين من الكعك على موظفي المدرسة، التي مازالت قائمة إلى اليوم بحي الجمالية بالقاهرة، وقد عرف النوع الأول بالكعك الناعم وهو ولا شك غزير الإدام، بينما عرف النوع الثاني بالخشن لقلة الإدام فيه.

والحقيقة أن وزارة الأوقاف المصرية لو التزمت بالنص الحرفي للوقفيات المملوكة لتحول جزء معتبر من أنشطتها إلى إنشاء مخابز إنتاج كعك العيد.

وطوال العصرين المملوكي والعثماني كان المصريون يتهادون الكعك ويتفاخرون بإجادته وبقيت من هذه العادة بقية إلى يومنا هذا، وقد ذكر محمد بن السعودي وكان يسكن بدرب الأتراك بجوار الجامع الأزهر في سنة بضع وستين وسبعمئة أنه جاءه في عيد الفطر من الجيران أصناف كعك على عادة أهل مصر ملأ بها زيراً كبيراً (إناء ماء فخاري ضخم) لأن هذا الخط كان يسكن به الأكابر والأعيان حسب قوله.

ونظراً الى رواج هذا الكعك في عيد الفطر كان سوق الحلاويين بالقاهرة (قبالة جامع المؤيد شيخ) يتيه فخراً بما يعرض في حوانيته من أصناف الكعك التي تخرج عن كل حصر.

وكان للفن أيضاً دوره في صناعة الكعك، إذ عملت له القوالب المنقوشة بشتى أنواع الزخارف الإسلامية الهندسية والنباتية، بالإضافة إلى قوالب على هيئة الحيوانات والطيور، وضمن مقتنيات متحف الفن الإسلامي بالقاهرة مجموعة من قوالب الكعك مكتوب على بعضها عبارات متنوعة منها «كل هنيا» و«كل واشكر» و«كل واشكر مولاك» و«بالشكر تدوم النعم».

وزائر القاهرة في أيام عيد الفطر بل وفي الأيام العشرة الأخيرة من رمضان سيجد حرصاً شديداً من أصحاب المخابز على التفنن في تنفيذ منتجاتهم من أصناف كعك العيد، لاسيما بعد أن تراجعت إلى بعيد عادة المصريين في صنع الكعك بأنفسهم ونقل الصاجات المعدنية على رؤوس الأطفال إلى ومن المخابز ذهاباً وجيئة. ورغم أن البعض يرى في تقلص هذه العادة انعكاساً لارتفاع كلفة شراء الدقيق والسمن والنقل فإن هناك من يري ذلك نتيجة لسيادة نمط الأسر النووية على حساب الأسر الممتدة والتي كانت حاضنة لمشاركة نساء الأسر والأطفال الصغار في عمل الكعك ونقشه.

ومهما يكن من أمر فإنه يبدو أن كعك العيد قد قدر له أن يظل بحكم نوع خاص من القصور الذاتي التاريخي واحداً من أخص وأهم مظاهر الاحتفال بعيد الفطر في مصر مهما تغيرت المذاهب أو تبدلت الدول والرايات، أو ارتفعت أو انحدرت مستويات المعيشة، تماماً كما أراد له الفاطميون، ويا لها من إرادة.