التفاؤل وحده لا يكفي!
من أين أتى من أتى بأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في العاشر من ديسمبر 1948 كان صناعة غربية؟ بل إن تلك المقولة وبالذات في عالمنا العربي كادت أن تصبح من المسلمات. وهي مقولة تتبعها مقولة أخرى ربما ذات عمق أكبر، وهي أن ذلك المخلوق الغربي ـ هكذا ـ إنما هو بمنزلة حصان طرواده يسعى الغرب من خلاله إلى فرض قيمه ومعاييره على الدول الضعيفة والفقيرة المسماه في مجملها بدول العالم الثالث.لاشك أن هذه المقولات، والاستناد إليها في التعامل مع الإعلان خصوصاً، وحقوق الإنسان عموماً، هي مقولات مغرية للهروب من الالتزامات التي سطرها الإعلان والقيود التي فرضها على كيفية تعامل الحكومات والدول مع البشر المقيمين داخل حدودها.
ويبدو أن تكرار هذه المقاربات إنما يعود إلى سببين؛ أحدهما، الخلط بين مبادئ الإعلان وبين السلوك السياسي اللئيم الذي مارسته الدول الكبرى تجاه حقوق الإنسان، فها نحن ومنذ صدور الإعلان ودخولنا في أتون الحرب الباردة، لم تتوقف الدول الكبرى خصوصاً عن دعم وتأييد، بل وتنصيب أنظمة شرسة قمعية تفتك بالإنسان ليل نهار، فالقارة الصاعدة، أميركا اللاتينية تعرضت لحالة إخصاء سياسي وتحولت تلك الدول الواعدة إلى جمهوريات موز من جواتيمالا إلى الدومينيكان إلى تشيلي إلى الأرجنتين إلى السلفادور إلى بنما وغيرها تحت مبررات الحرب الباردة، وينسحب الأمر ذاته على منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا.أما السبب الثاني لتلك المقولة فيعود إلى الجهل بحيثيات المداولات والمساهمات الحقيقية التي جرت في إطار التحضير للإعلان التي كانت مساهمة الدول الكبرى ـ ولا أقول الغربية فحسب ـ ضعيفة، بل ومعيقة.وأعترف بأنني كنت في زمن مضى أميل إلى صحة هذه المقولات، إلى أن بدأت أطرح السؤال التالي، كيف بالإمكان أن يكون ذلك الإعلان من صناعة الغرب في الوقت الذي كانت الدول الكبرى إما أنها دول لا تحترم حقوق الإنسان على أرضها كالولايات المتحدة وتمييزها العنصري و الاتحاد السوفييتي وشموليته وقمعيته، وإما أنها دول استعمارية؟وقد استغرقت الإجابة على هذا السؤال سنوات عدة من البحث والتمحيص والمقابلات سواء أثناء وجودي كاستاذ زائر في كلية الحقوق ببرنامج حقوق الإنسان في جامعة هارفارد وإطلاعي على آلاف الوثائق كذلك بمكتبة الأمم المتحدة، ومكتبة الكونغرس كان نتاجها دراسات عدة خلصت فيها أن الإعلان كان نتاجاً لجهود متعددة ومتنوعة من دول مختلفة ومتباينة، وأن ظهوره في تلك الحقبة التاريخية بالذات إنما كان يمثل رداً منطقياً على المجازر التي ارتكبتها النازية والفاشية في أوروبا والعالم، وهكذا وجدنا الاجتماع الأول للجمعية العامة للأمم المتحدة يصدر قرارات بهذا الاتجاه حيث أدانت المعاملة المهينة للهنود في جنوب أفريقيا، ودعمت الدعوة لمنح المرأة حقوقها السياسية (في وقت لم تكن سويسرا قد منحتها ذلك الحق بعد)، ودعت إلى عقد مؤتمر دولي حول حرية الإعلام وتبادل المعلومات، وأدانت الإبادة الجماعية، كما طالبت الدول (الاستعمارية في الغالب)، التي كانت قد مُنحت انتداباً أو وصاية على مواقع جغرافية من خلال عصبة الأمم ثم الأمم المتحدة لاحقاً، إلى تقديم تقرير سنوي يوضح درجة إلتزام تلك الدول بحقوق الإنسان في تلك المناطق، كما كرّست الجمعية العامة وقتاً طويلاً لمناقشة الحقوق المشروعة لتشكيل نقابات عمالية، كما كان لظهور منظمات دولية كمنظمة العمل الدولية ومنظمة الصحة العالمية ثم «اليونسكو»، دور فاعل في التحرك الضاغط نحو مزيد من التزام الدول باحترام حقوق الإنسان، وقد تجلى ذلك ضمن إجراءات أخرى في المبادرة التي أطلقتها «اليونسكو» التي سعت من خلالها إلى محاولة التعرف على امكانية وجود قواسم مشتركة بين ثقافات العالم المختلفة وذلك من خلال استفتاء رأي العديد من المفكرين والفلاسفة ممن يمثلون ثقافات العالم كافة حول الأسس الثقافية المختلفة لحقوق الإنسان في كل ثقافة على حدة، وقد أصدرت استناداً إلى ردودهم وثيقة مهمة أُطلق عليها «تقرير حكماء اليونسكو» توصلت بموجبها إلى اتفاق ثقافات العالم كافة على وجود تلك الحقوق وضرورة احترامها، وإن اختلفت في مرجعيتها. وهكذا كانت أجواء التفاؤل ببزوغ فجر جديد على عالم أكثر تراحماً وأكثر إنسانية تسيطر على المكان والزمان، كان البشر يتطلعون إلى أنهم قد تعلموا دروساً قاسية من الحرب العالمية الثانية، وهي ربما أجواء مشابهة للأجواء التي سادت العالم بعد سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة وظهور مفاهيم جديدة كمفهوم التدخل الإنساني.في إطار تلك الأجواء ومن رحمها أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، قراراً بتشكيل لجنة حقوق الإنسان محدداً صلاحياتها بتقديم مقترحات وتوصيات للمجلس حول:أولاً: شرعة دولية لحقوق الإنسان.ثانياً: إعلانات دولية ومعاهدات حول الحقوق المدنية ووضع المرأة وحرية الإعلام وأمور مشابهة.ثالثاً: حماية الأقليات.رابعاً: أي مسائل أخرى ذات صلة بحقوق الإنسان غير مذكورة أعلاه.وعلى الرغم من كل ذلك الزخم فلم يصدر فعلياً إلا إعلان يتيم لحقوق الإنسان... أما الاتفاقيات فقد تأخرت إلى ما يزيد عن ثلاثة عقود، بل أكثر من ذلك.وللحديث بقية.