أطرف-حتى لا أقول أغبى- القرارات الصادرة سورياً على الصعيد الداخلي عام 2007، كان قرار «عَرْبنة» البلد والرعايا قسرياً، ومفاد القرار تحويل أسماء جميع المحال التجارية والفنادق والمطاعم والأماكن، إلى أسماء عربية، حتى لو كانت تعود إلى علامات تجارية عالمية.

Ad

والقرار الصادر منذ العام 1961 لن يشمل فقط ما ذكرنا، إنما يتوجه إلى اعتماد المواد الإعلامية والدرامية بالفصحى، بحيث تغدو بهذا المقياس، كاساندرا بطلة المسلسل المكسيكي المدبلج الشهير، بمثل عروبة أبطال مسلسل صلاح الدين، في مفهوم جديد ومبتكر للعروبة على الطريقة السورية، وعلى ذلك تجري حملة حالياً لتغيير أسماء جميع المحال والفنادق والأسواق إلى الأسماء العربية الفصحى! تحت طائلة الإغلاق.

بعيداً عن طرافة-غباء القرار، يتألم البعض لامتهان العربية والعروبة بمثل هذا القرار، ويتعجب آخرون، أن تترك كل مصائب السوريين الخدماتية والمعيشية، ليلاحقوا في مصادر رزقهم تحت يافطة العروبة. الأنكى من ذلك، أن القرار لم يأخذ بالاعتبار أولئك الذين يحملون بالأصل أسماء أجنبية، كالأقليات الكردية أوالمسيحية، ويطلقون أسماءهم على أعمالهم التجارية، وكيف من شأن ذلك أن يؤثر في إحساسهم بمواطنتهم عبر قرار يستنكر عليهم جانباً من ثقافتهم، ولا أعرف كيف نصبح أكثر عروبة إذا غيرنا اسم محل تجاري من «بينيتون» مثلاً إلى عنترة، طالما أن الأزياء في المحل المذكور أزياء غربية بامتياز، وما إذا كان تحويل اسم محل بيتزا إلى «الشطيرة» سيجعل من البيتزا مبتكراً غذائياً عربياً.

مع ذلك، لا يعود الامتعاض من هذا القرار إلى أمور ذات صلة بحقوق الأقليات غير العربية في سورية، وليس له علاقة بكون دمشق من أقدم العواصم المأهولة تاريخياً، والتي عرفت حضارات وشعوبا ربما لم يسمع أصحاب القرار بها، ولا بكون هذا الزمن زمن الانفتاح والتبادل الثقافي والقرية الكونية الصغيرة، كما لا يبدو من المستساغ تبريره بمناهضة الصهيونية ومحاربة الامبريالية عبر لافتات المحال!

قد تكون له علاقة غير مباشرة بكون سورية تراجعت من المركز 93 إلى المركز 138، في مؤشر «مدركات الفساد» لعام 2007 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، لتأتي في ذيل القائمة عربياً، لا يتخلف عنها غير السودان والعراق والصومال العتيد فقط. ونقول «قد»، لأن انتشار الفساد كالسرطان على هذا الشكل بحيث لا يستثني خدمة أومرفقاً أوقطاعاً، لا يفسر في ما نعتقد مثل تلك القرارات السريالية، فبإمكان الفساد أن يكون أكثر «جدية» من ذلك!

بل مختصر الأمر، هو الإيمان العميق بفوضى القرارات الخلاقة بالمعنى السوري، ومفادها: لا تتبع المنطق، تجاهل المواطن ما استطعت، انتظر النتائج! حتى أن المرء لَيَحتاج آلاف الدراسات النفسية والاجتماعية والثقافية، ليتوصل إلى الخيوط الأولى فقط في كيفية صنع القرار على الصعيد الداخلي في سورية.

القرار جاء مع التحضير لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008، حيث تحولت دمشق إلى ورشة كبيرة للتزيين والتنظيف والبهرجة، فطليت أبنية قديمة بطلاء جديد بما يطمس معالمها الأصيلة، وظهرت قرارات ومراسيم قديمة من تحت غبار الأدراج، أو استحدث بعضها، فكادت أجزاء من الشام القديمة تذهب في مهب «البلدوزرات»، ودمرت أجزاء من شارع مدحت باشا الأثري في معرض إعادة تأهيله، وتهدد أجزاء من سوق البزورية القديم بالإزالة، واقتلعت الأرصفة الحجرية الجديدة التي تم رصفها في محيط التكية السليمانية، وتطول الأمثلة حتى يخشى المرء ألّا تنتهي احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، إلا ولم يبق حجر على حجر في هذه المدينة، وخسائر الناس المادية «عربية» بامتياز.

لا أحد تماما يتحمل مسؤولية ما يتخذ من قرارات، هناك دائما كائن مجهول ترمى الاتهامات في وجهه، وهناك دائما أهداف غير معلنة ترجع إليها أسباب القرارات، تلك الأهداف لها الكلمة الفصل، في ما تبقى المصلحة العامة والقانون والقضاء، في الصفوف الخلفية من غير استثناءات، والأنكى من ذلك كله، أن تلك القرارات تهبط على رؤوس المواطنين كالقدر المستعجل، على حد وصف أحد المواطنين في أحد التحقيقات الصحفية المحلية، فصاحب القرار تأتيه الرؤية في الثالثة صباحاً مثلا، ليتم التبليغ برؤيته في الخامسة صباحاً، ويبدأ التنفيذ في الثامنة من الصباح نفسه. والكارثة، إذا غفى المسؤول أثناء النهار، لتأتيه رؤية معاكسة أومناقضة للأولى.

لا يسأل الناس رأيهم في القرارات التي تمس عيشهم وحياتهم ومصادر رزقهم، فهم كائنات غير مرئية على الصعيد الرسمي، ولا يجري التساهل مع المعترضين منهم عليها، من أطرف-ومرة ثانية حتى لا أقول أغبى القرارات، التي اتخذت ونفذت أواخر العام الماضي، تبديل لافتات المحال التجارية وسط المدينة -لأسباب مختلفة عن حملة التعريب إياها، بحيث جاءت شرطة البلدية مزودة بالمعدات اللازمة، وقامت بتحطيم عشرات اللافتات غير الملتزمة بالقرار الجديد- وفقا لبعض أصحاب المحال، لم يجر تبليغهم بالقرار أصلاً. وتركت بقايا اللافتات والزجاج المحطم لأصحاب المحال ليقوموا بتنظيفه أولا وشراء لافتات جديدة وتركيبها ثانيا.

وحتى تهدأ زوبعة القرار المذكور، ننتظر صدور قرار آخر ليس أقل عبثية وارتجالاً، وحتى ينتخب رئيس للبنان وتعود الجولان إلينا وتحل القضية الفلسطينية، يبقى الداخل السوري فيلم كوميديا سوداء، هم يقومون بكتابة السيناريو والإخراج، ونحن نمثّل ونبكي، وهم يضحكون!

* كاتبة سورية