جورج حبش: الاستثناء في التفاصيل أيضاً!
تستوقفني في حياة جورج حبش محطات عدة: الأولى تتعلق بمذكرات صهيوني، والثانية بالحديث الذي دار بيني وبينه حول يفيسييف المفكر السوفييتي المعادي للصهيونية، والثالثة عندما أسسنا اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية، أما الرابعة فكانت بُعيد مؤتمر «ديربن» حول العنصرية عام 2001، وأما الخامسة فهي تختزن لشؤون وشجون عراقية.
أخيراً «استسلم» بهدوء جورج حبش، بعد أن سئم من الصراع العبثي مع المرض، فارتضى الحقيقة الوحيدة المطلقة، منذ بدء الخليقة حتى إشعار آخر، فلسنوات طويلة قاوم هذا الطائر المتمرد المرض، وحاول أن يزوغ، يراوغ، يؤجل المواجهة لكن ذلك الذئب ظلّ يترصده، حتى قرر أخيراً أن يواجه الموت بهدوء وكبرياء كقدر محتوم، وهو الذي عاش في قلب العاصفة لأكثر من ستة عقود من الزمان.لم أكتب لرثاء جورج حبش، فهناك من هم أجدر مني بالكتابة عنه، لاسيما من مجايليه ورفاقه، فقد كان رمزاً لجيل التمرد والأمل، وقد تسنّى لي أخيراً أن أقرأ مذكرات رفيقه الدكتور أحمد الخطيب الذي استوقفني ليس اهتمامه بالاستراتيجيات فحسب بل انشغاله بالتفاصيل أيضاً.المحطة الأولى: مذكرات صهيوني فقد أعددت نصاً كان قد كتبه ييرجي بوهاتكا بعنوان «عندما تحدث في يومياته...» نشر في حينها في مجلة «المنبر» أو المنصّة عام 1974 في براغ على أربع حلقات، وكانت إحدى المستشرقات قد لفتت انتباهي إليه، وقمت في وقتها بترجمته «ولستُ بمترجم» على أمل نشره، لكنه سرعان ما ضاع بين أوراقي في العراق التي عبثت بها يد القدر. وبعد خروجي إلى المنفى مرة أخرى استعدتُ النص وقمت بإعداده وكتبت مقدمة له، ووضعت له عنواناً جديداً وهو «مذكرات صهيوني» صدر بكرّاس لاحقا عن دار الصمود العربي 1985، ونشرته على خمس حلقات في مجلة الهدف، التي تربطني بها صداقة حميمة منذ أن تعرّفت على غسان كنفاني في بيروت في العام 1970 وفي ما بعد بسّام أبو شريف في العام نفسه، وصابر محيي الدين رئيس التحرير في حينها.بعد استكمال نشر المادة هاتفني الأخ والصديق تيسير قبعة وقال لي «الحكيم بدّو يشوفك» والتقيت به واستفسر عن إمكان الحصول على نص المذكرات التي تعود إلى إيغون ردليخ عضو المنظمة الصهيونية «مكابي هاكير» الذي كان معتقلاً في معسكر أوستفيتم في جمهورية تشيكوسلوفاكيا سابقاً والذي تعاون مع جهاز الغاستابو.وقد توقف الدكتور جورج حبش عند المعلومات التي وردت في المذكرات والتي كتبها إيغون ردليخ في المعتقل، الذي أعدم في العام 1944، والتي هي عبارة عن صفقة لا أخلاقية بين النازية والصهيونية، فمقابل إرسال الآلاف من اليهود إلى أفران الموت النازية يُرسل بضع عشرات أو مئات من القيادات والمتموّلين الصهاينة إلى فلسطين، وقد تم العثور على تلك المذكرات في سقف لأحد البيوت الحجرية في مدينة غودوالدوف بعد أكثر من عقدين من الزمان. جدير بالذكر أن المذكرات كُتبت بطريقة حذرة خوفاً من وقوعها بيد جهاز الغاستابو، لكنها تفصح عن الكثير من الخبايا والخفايا حول التعاون والتنسيق بين القيادات النازية والقيادات الصهيونية في ما يتعلق بمأساة اليهود، ناهيكم عن أنها تكشف عن طريقة التفكير الصهيونية الخاصة بالتربية والتعليم والتنشئة والعلاقات وغير ذلك.وبسؤال «الحكيم» عن إمكان الحصول على نص المذكرات، توقعت أن العملية سهلة ويسيرة، ولكن بعد الاتصال بصديقنا القديم موسى أسد الكريم والطلب إليه تأمين نسخة من نص المذكرات، فاجأني محدثي من براغ بعد أسبوع أن ييرجي بوهاتكا هو اسم مستعار لضابط مسؤول عن ملف النشاط الصهيوني في تشيكوسلوفاكيا أُقيل من منصبه عام 1968، ثم سُمح له الكتابة باسم مستعار، والتقى الكريم بزوجته التي كانت تعيش في إحدى المصحّات بعد وفاته بعامين وحاول الحصول على نسخة من المذكرات حتى إن دفع ثمنها وكانت تلك إشارة من الدكتور حبش، لكنها رفضت الاستجابة لطلبه ثم امتنعت عن الحديث في الموضوع.واستفسرت من الصديق حسين العامل العراقي المخضرم في براغ في ما إذا كان لديه معلومات عن الرجل وبعد تدقيق أبلغني أن ييرجي بوهاتكا كان قد ألّف كتاباً عن النشاط الصهيوني في الدول الاشتراكية واستلم حقوقه البالغة 50 ألف كورون آنذاك وهو مبلغ لابأس به في حينها وقام بتصحيح المسوّدات واطلع على صورة الغلاف وعلى الكتاب مطبوعا في المطبعة، لكن الكتاب اختفى بعد يومين، ونقلت تلك المعلومات إلى الدكتور حبش الذي أصيب بدهشة وذهولٍ مثلي وربما أكثر مني، لاسيما أن ذلك جرى في ظل النظام الاشتراكي السابق.المحطة الثانية: المفكر يفيسييف حيث دار الحديث بين الدكتور حبش وبيني حول المفكر السوفييتي المعادي للصهيونية يفيسييف، إذ كانت صحيفة الثورة السورية قد نشرت القسم الأول من مقابلة معه لكنها لم تنشر القسم الثاني، حيث ندد فيها بقرار التقسيم واعتبره أحد أخطاء القيادة الستالينية، لاسيما نفوذ بعض العناصر الصهيونية في وزارة الخارجية، وكان الرجل قد وضع عدداً من الكتب التي تفضح الدعاوى الصهيونية التاريخية والمعاصرة، وكان متحمساً للجنة الاجتماعية لمناهضة الصهيونية التي أسسها أندروبوف عام 1983، لكن تغيّر الأحوال وتعاظم النفوذ الصهيوني أدى إلى عزله وسحب شهادته، ثم وجد مقتولا في ضواحي موسكو عام 1990.وكان الحكيم يفكر في السبيل لمساعدة أصدقائنا في الظروف المتغيّرة بعد أن كنّا قد أسسنا اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية.(لجنة دعم قرار الأمم المتحدة 3379) وهي المحطة الثالثة، فقد ظلّت اللجنة تراوح في مكانها بعد نكوص المنظومة الاشتراكية وانهيارها في ما بعد وتراجع العديد من القوى العربية والدولية عن مواقفها السابقة من الصهيونية، فسرعان ما تم «إعدام» القرار 3379 في 16 ديسمبر 1991.أما المحطة الرابعة فكانت عشية وبُعيد مؤتمر ديربن حول العنصرية عام 2001 حين التقيته قبيل سفري إلى جنوب إفريقيا ثم استعرضت معه نتائج المؤتمر الإيجابية بإدانة الممارسات العنصرية الإسرائيلية، وذلك خلال حضوري لإلقاء محاضرة في دمشق، لكن القلق كان قد بدأ يخيم علينا بعد أحداث 11 سبتمبر التي سرقت الأضواء من مؤتمر ديربن. لعل محطة خامسة جديرة بالتوقف فهي تختزن لشؤون وشجون عراقية، لكنها تحتاج إلى فرصة أخرى، وهو ما تحدثت به مع الصديق صلاح صلاح حين أبلغني برحيل جورج حبش.* كاتب ومفكر عربي