الصحافي الجندي
الصحافي الجندي نوع من الإعلاميين يخلط بين الهواية والاحتراف؛ ويمارس مهنة يعد الحياد أحد أهم شروطها بأكبر قدر ممكن من الانحياز، وبدلاً من أن ينقل لجمهوره حقائق ومعلومات، يزودهم بآرائه ومعتقداته، فيحرف اتجاهاتهم، أو يفقد ثقتهم، لينصرفوا إلى وسائل أخرى وإعلاميين أكثر حرصاً على الموضوعية والتوازن.يعرف واقعنا الإعلامي ظاهرة الصحافي الجندي ويعاني آثارها منذ عقود طويلة؛ فقد نشأت وسائل إعلامنا في أحضان الدولة، ومن ثم كان الكثير من صحافيينا مجرد «موظفين» لدى الحكومة، يأتمرون بأوامرها، ويحصلون على رواتبهم من خزانتها، ويفكرون بعقلها، ويحاربون معاركها، ويستهدفون أعداءها.
وعلى مدى تلك العقود تكرست سمات الصحافي الجندي ومعها أطروحة تمت تسميتها بـ«الصحافة المسؤولة»، ونظّرت لكليهما الأكاديميات، وراحت تخترع مفاهيم من نوع «المسؤولية الاجتماعية»، و«صحافة المدرسة الاشتراكية»، لتبرير الانحياز الصارخ في الأداء الإعلامي، واعتبار خدمة الحكومة خدمة للدولة، ومن ثم خدمة للمجتمع والناس والوطن.لم تكن هذه هي الحال في جميع بلداننا العربية؛ فقد ظهرت استثناءات واضحة سواء في لبنان أو الكويت؛ حيث كانت الملكية الخاصة لوسائل الإعلام عائقاً أمام سيطرة تامة وممجوجة على أداء وسائل الإعلام والإعلاميين، لكن هذا لم يحل بالطبع دون انصراف معظم الإعلاميين وأكثر الوسائل إلى أشكال من «القتال بالأخبار»، لتكريس انحياز ما لفكرة أو رأي أو أيديولوجية أو حكومة أو فصيل سياسي أو طرح اجتماعي أو نفوذ مالي.وعلى الجانب الآخر، وفي الدول التي عرفت أنماط الملكية العامة لوسائل الإعلام، انخرط الصحافيون الجنود في معارك حكوماتهم، وراحوا يتلمسون اتجاهات الريح تجاه القضايا والأفكار أو الأطراف السياسية أو الدول والتجمعات الإقليمية والدولية، ويبادرون بشن الهجمات على الأعداء وتسفيه آرائهم وازدراء حججهم، وفي الوقت نفسه يمجدون حكوماتهم ويبرزون مناقب قادتهم ويعززون الأفكار الإيجابية عن الحلفاء والأصدقاء.ولعقود طويلة كانت وكالات الأنباء الأجنبية والدبلوماسيون الغربيون ووزارات الخارجية ومراكز البحوث تتقصى مواقف حكوماتنا العربية مما تكتبه الصحافة. ومن ذلك أن صحافيين بعينهم كانوا معروفين كأكثر وسائل التعبير عن الرأي الحكومي والموقف الرسمي، ليس من خلال مقالاتهم فقط، ولكن أيضاً من خلال الأخبار والمواد التي ينشرونها، والتي تُختار بعناية لتعكس وجهة نظر الحكومة بأكبر قدر ممكن من الأمانة.وظل الصحافي الجندي أميناً لمعاركه التي يحاربها، حتى صار يتفنن في اختراع الوسائل التي يحقق بها غرض حكومته؛ ومن ذلك أنه في أحيان عديدة تجاوز الحدود، أو واصل الهجوم أو الترحيب بموقف أو طرف، فيما أحوال السياسة تغيرت أسرع من إدراكه لها، وبالفعل فقد تلقى لوماً أو جزاءً، وربما أطيح به أو عوقب عقاباً مريراً على فعلة ارتكبها إثباتاً في إمعانه في الولاء. يشارك الصحافي الجندي في المؤتمرات الصحفية ليس كما هو مفترض ممثلاً للجمهور، حريصاً على طرح تساؤلاته، والحصول على أفضل الإجابات وأكثرها شمولاً عن القضايا محل الاهتمام، ولكنه يشارك كطرف أصيل، وصاحب رأي وحجة وموقف، فيسأل المصادر كأنه يحاسبها، ويسوق قناعاته هو، ويسرد آراءه وأفكاره عن الأزمات وكيفية حلها.ينتمي الصحافي الجندي إلى تنظيم نقابي من المفترض أن يكون «نقابة أو جمعية أو اتحاد الصحافيين»، لكنه يرتاح لوصف التنظيم بأنه «نقابة الرأي». وبدلاً من أوصاف الصحافي المحترف أو الإعلامي المهني، فإنه يفضل «صاحب القلم الحر» أو «صاحب الرسالة» أو «المدافع عن قضايا الوطن» أو «محامي الشعب».حين يشعر الصحافي بأنه محامي الشعب أو حارس الوطن، فإنه يفقد أحد أهم شروط ممارسته مهنته؛ ذلك أنه لا يوجد أي إثبات على أن هذا الصحافي، مهما تأكد لنا ما يتحلى به من مهارة أو وطنية أو نبل ونزاهة، أنه أكثر معرفة منا بمصلحتنا، أو جدير بالوصاية علينا، أو أقدر على تصحيح اتجاهاتنا.يحارب الصحافي الجندي بالأخبار، فيسلط الضوء على قضايا يعتقد أنها أكثر تلبية لاحتياجات الجمهور وأكثر خدمة لمصالحه، ويحجب الضوء عن قضايا أخرى يراها أقل أهمية. وهو يختار من الشخصيات التي يغطي أخبارها من يعتقد أنهم جديرون بالتقدير والاحترام، فيلمع صورهم ويبرز مناقبهم، كما يختار هؤلاء «الأعداء» أو «البلهاء» أو «السيئين» فيشن عليهم هجماته و«يفضح» خطاياهم ويحط من شأنهم لدى الجمهور.ليس هذا فقط، لكن الصحافي الجندي يصوغ لنا العبارات وفق فهمه للأمور، وحسب قناعاته ورؤاه، فيختار من بين قتلانا الشهداء، فيمنحهم صكوكاً لدخول الجنة، كما يحدد القتلى الذين «ذهبوا غير مأسوف عليهم»، كما يميز بين «الإرهابي» و«المقاوم»، و«تحريك الأسعار» ورفعها، ويجعل من الإضراب «تخريباً» أو «موقفاً وطنياً» بحسب الأحوال والقناعات التي يدافع عنها.ليت الصحافي الجندي يذهب إلى الميدان فيحارب، أو يسود المقالات بآرائه، أو ينشئ جمعية مدنية أو حزباً سياسياً، أو يعبر عن آرائه بأي طريقة يراها مناسبة عدا أن يفسد علينا الأخبار.* كاتب مصري