الإنسان العربي منذ أكثر من عشرة قرون، وبالتحديد منذ القرن التاسع الميلادي، وبعد عهد الخليفة المأمون، لم يقدم للإنسانية فكراً أو علماً أو ثقافة إنسانية ذات قيمة. وظلت الثقافة العربية منذ ذلك التاريخ، وحتى الآن ثقافة انغلاقية، محكومة حكماً صارماً بتراث الأموات والأوهام والخيالات الشعبية.1 -
اختلفت صورة العرب بعد الاعتداءات الإرهابية للحادي عشر من سبتمبر 2001 عما كانت عليه قبل هذه الكارثة الرهيبة. وفي رأيي أن هذه الكارثة قد حققت لـ «جبهة الإرهاب» العربية ما أرادت، من إيجاد قطيعة سياسية وثقافية بين العرب والغرب. وهو الهدف الأساس لهذه الكارثة ولمسببيها. ذلك أن القطيعة الثقافية بين العرب والغرب، هي التي تؤجل تأجيلاً طويل الأمد زهرة الحداثة العربية، من أن تتفتح، ويفوح عبقها في العالم العربي. هذا رغم أنني أميل بعض الشيء إلى التفسير الذي يقول إن كارثة سبتمبر 2001 كانت بدافع العودة العربية إلى التوحش، باعتباره عنفاً أعمى يعبر عن الغرائز غير المروضة. كذلك الحال مع قطع رؤوس السياح والصحافيين والمثقفين والنساء. فكما كان البدوي يشهر سيفه فجأة في حالة الغضب أو السرور، فقد أصبح العربي بقوة الدين يستعمل قوته إلى حد تجاوز ذاته، كما ألمح محمد الحداد في كتابه (الإسلام: نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح، ص 68-69).
فصورة العرب التي كانت «جبهة الإرهاب» تسعى إلى ترسيخها في المرآة الغربية هي الصورة النمطية السلبية، المُكفِّرة للآخر، والمعادية للآخر، والتي لا تخرج عن نطاق الإرهابي المتعصب والمتشدد دينياً. أي صورة الإنسان غير المتحضر.
2 -
فما هي الأسباب التي أدت إلى نشوء هذه الصورة النمطية الجامدة والقبيحة لدى الغرب عن الإنسان العربي؟
هناك أسباب عدة لهذا الوجه العربي في المرآة الغربية، منها:
1 - إن الإنسان العربي منذ أكثر من عشرة قرون، وبالتحديد منذ القرن التاسع الميلادي، وبعد عهد الخليفة المأمون لم يقدم للإنسانية فكراً أو علماً أو ثقافة إنسانية ذات قيمة. وظلت الثقافة العربية منذ ذلك التاريخ، وحتى الآن ثقافة انغلاقية، محكومة حكماً صارماً بتراث الأموات والأوهام والخيالات الشعبية.
2 - أصبحت الثقافة العربية الآن، هي ثقافة العنف والإرهاب. وهذه الثقافة لم تأت من أحد، ولم تنزل من كوكب آخر، بقدر ما جاءت من داخلنا، ومن ماضينا الممتد في حاضرنا، ومن انتصار الاتباع على الإبداع، وانتصار الرواية على الدراية في تراثنا الأدبي والفقهي، وانتصار جهاد الآخر على جهاد النفس العدوانية، وهو أجمل أنواع الجهاد. لقد جاءتنا هذه الثقافة الغرائزية العنيفة، التي تقطر دماً من تقاليد الحروب، والمشاحنات القبلية والطائفية، وبطش السلطات الغاشمة، قديماً وحديثاً. جاءتنا من ردود فعلنا الهاذية على إحباطاتنا الفردية والجمعية، ومن جروحنا النرجسية سواء منها المنحدرة من هزائمنا أمام الغرب وإسرائيل، أو الآتية من تربية أسرية قاسية. والذي زاد من ضراوة هذه العوامل التراكمية، عدم وجود قطيعة ديموقراطية فيها، تؤسس لثقافة جديدة، قوامها الحوار والسلام، مثلما حصل في اليابان.
3 - غياب القطيعة الديموقراطية لعوامل العنف الدموي التراكمية، جعل صدماتنا تتحالف مع موروثنا الثقافي لصياغة شخصيتنا النفسية صياغة ثأرية، حوّلت أخذ الثأر في سلمنا القيمي إلى قيمة اجتماعية، والتسامح والغفران والجنوح إلى السلم، إلى وصمة عار وجبن وخيانة، والانفتاح على العالم؛ أي على استثماراته وقيمه تفريطاً في الهوية واقترافاً لـ «أم الجرائم»، وهي التبعية للغرب.
3 -
ما هي أنجع الوسائل التي تمكننا من تغيير هذه الصورة السلبية للإنسان العربي لدى الغرب؟
على الإنسان العربي أن يتغير وتتغير معه الأمة العربية. إن التغيير في الحياة العامة من نظم وقوانين ونواميس لن يتم، إلا إذا غيّر الإنسان قناعاته وأفكاره ومنهاج حياته. واعتقد أن لا سبيل إلى التغيير الآن في العالم العربي، إلا بتبني الخطوات التالية:
1 - إنتاج الفكر النقدي، الذي يساعد على الانتقال من القطعي إلى المبرهن عليه، ومن المسلم به إلى المتناقش فيه، ومن القراءة العابرة للتاريخ إلى القراءة التاريخية للنص، لجعله في متناول العقل، ومتكيفاً مع متطلبات الحياة الاجتماعية.
2 - تبني القطيعة الجارحة مع التراث. فالحضارة الحديثة ابنة لثلاث قطائع أورثت الوعي الأوروبي ثلاثة جروح نرجسية: اكتشاف جاليلو لكروية الأرض، وداروين لنظرية التطور وفرويد للاشعور. وهكذا لم تعد الأرض مركز الكون، ولا الإنسان مركز الكائنات، ولا العقل سيد بيته، بل اتضح أنه محكوم باللاعقل؛ أي اللاشعور. والتراث الديني يلعب دور الباغي الذي يردع ورثته عن التنصل منه ومن أوامره ونواهيه. كما أن التثبت العصابي في هذا التراث - كما تفعل الأصولية والسلفية - يغذي النرجسية الجمعية والمركزية الإثنية بوتائر عالية مما يجعلها تلعب دور العائق الذهني.
3 - كسر المُحرمات الغبية التي يحكم بها الأموات الأحياء، لأن المثقف تعريفاً هو مع الحداثة وضد القدامة، ومع العقل ضد النقل، ومع التجديد ضد التقليد، ومع الديموقراطية ضد التوتاليتارية، ومع حرية المرأة ضد استعبادها.
4 -
لقد اقترنت صورة الإنسان العربي في أذهان الغرب منذ اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر بالإرهاب، فهل هناك ما يسوّغ أعمال العنف في الإسلام؟
ليس هناك ما يُسوّغ أعمال العنف في الإسلام وبعض العرب لم يعودوا مسلمين الآن، ولا علاقة لبعض العرب وإرهابهم اليوم بالإسلام الصحيح.
أصبح بعض العرب اليوم بلا دين.
فلا يغرنّك هذا العدد الضخم من المساجد، وهذا العدد الضخم من المصلين والحجاج في العالم العربي، وهذه الكميات من أموال الزكاة والصدقات. فبعض العرب الآن يعيشون الجاهلية الثانية. فالعرب لا يشكلون غير %19 من مسلمي العالم، ومع ذلك فهم الذين أقاموا العالم ولم يقعدوه على رأس الإسلام بتصرفاتهم الدموية، وبعنفهم الموروث عن عصبيتهم، وليس عن دينهم. فهذا العنف اليومي، لا يمتُّ إلى أي دين من الأديان بصلة. بل لا يمتُّ إلى قيمة من قيم الإنسانية الراقية والمتحضرة.
فهل عاد العرب فجأة من عصور العقلانية إلى عصور الهمجية والغريزية؟
وهل فقد العرب آليات السيطرة على غرائزهم في البطش والقتل وممارسة العنف على هذا النحو الذي نراه الآن؟
كاتب أردني