Ad

هذا الفضاء يحتاج إلى سلسلة من الإجراءات الواجبة لتنظيمه، وضمان وفائه بمتطلبات الجمهور وحماية مصالحه وحقوقه، من دون تقييد أو تحجيم يهدف إلى الافتئات على حق الجمهور في المعرفة والمتعة البريئة المتسقة مع القيم الاجتماعية السائدة.

كنا استبشرنا خيراً إذ علمنا أن المعنيين أدركوا حاجتنا الملحة لتنظيم البث الفضائي في العالم العربي، بعدما اختلط الحابل بالنابل، وبات في كل بيت من بيوتنا لغم قابل للانفجار دون إنذار مسبق، لكن التوقعات خابت؛ إذ ظهر أن التنظيم في حاجة إلى تنظيم.

وثيقة تنظيم البث والاستقبال الفضائي في المنطقة العربية، التي أقرها وزراء الإعلام العرب، في وقت سابق من هذا الشهر فبراير، سياسية بامتياز، ويعتريها كثير من الخلط والخلل. وبقدر ما كانت الحاجة إليها ماسة وعاجلة، فإن الحاجة إلى إعادة النظر فيها تبدو أكثر إلحاحاً، ليس على خلفية «التحفظ» القطري أو اللبناني، أو النقد «العنيف» الذي تعرضت له من بعض المحافل، ولكن على خلفية موضوعية معيارية، تريد لها السداد، وتقر بضرورة وجودها، بقدر ما ترصد انحرافها عن أهدافها المفترضة.

فلا شك أن الفضاء العربي بحاجة ملحة لنوع من التنظيم؛ فثمة 400 قناة فضائية ناطقة بالعربية، تبث نحو ثمانية آلاف ساعة يومياً، من خلال أجندات تراوح بين الإخبار الجاد ذي المعايير الصارمة، إلى الترفيه المفرط في العبث حتى حدود الإباحية، وبينهما فضائيات للـ«استرزاق المحض»، تعتمد أوهام المسابقات، والدجل، والشعوذة، والمفاهيم الشعبوية للدين.

هذا الفضاء يحتاج إلى سلسلة من الإجراءات الواجبة لتنظيمه، وضمان وفائه بمتطلبات الجمهور وحماية مصالحه وحقوقه، من دون تقييد أو تحجيم يهدف إلى الافتئات على حق الجمهور في المعرفة والمتعة البريئة المتسقة مع القيم الاجتماعية السائدة.

لكن الرياح تأتي دائماً بما لا تشتهي السفن؛ فقد تم الخلط الواضح بين تطوير وثيقة إطارية، ترسي القواعد الإجرائية ذات الطابع القانوني لإطلاق فضائية، وممارسة عملها، وفق منظومة قانونية وإدارية ذكية، تملك سلطات الإشراف والضبط، وبين مدونات السلوك والقواعد والإرشادات التحريرية ذات الطبيعة المهنية الصرفة، والتي لا يجب، بل لا يمكن، أن يتصور عاقل أنها مهمة وزراء الإعلام في بلداننا العربية.

ومن ذلك أن الوثيقة تناولت طيفاً عريضاً من القواعد والأطر؛ بعضها يتعلق بمفاهيم البث، وتعريف السلطات المسؤولة، وقواعد تحديد بلدان المنشأ للنشاط التليفزيوني أو الإذاعي، فيما تعلق بعضها الآخر بمفاهيم تحريرية بالأساس؛ مثل «مراعاة أسلوب الحوار وآدابه، واحترام حق الآخر في الرد».

وليت الأمر اقتصر على هذا الحد؛ فقد ذهب القائمون على الوثيقة إلى التدخل في أطر وضع السياسات التحريرية، وانتقاء الموضوعات؛ مثل الحض على اختيار قصص «تثري شخصية الإنسان العربي، والعمل على تكاملها قومياً، وإنمائها فكرياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً»، أو «الامتناع عن بث كل ما يتعارض مع توجهات التضامن العربي أو مع تعزيز أواصر التعاون والتكامل بين الدول العربية أو يعرضها للخطر».

وبين هذا وذاك، طفحت الاعتبارات السياسية على الوثيقة، لتغرقها في خطل يثير من الرثاء والشفقة أكثر ما يثير من الاستنكار والرفض؛ فالوثيقة تشير بوضوح إلى وجوب «احترام خصوصية الأفراد، والامتناع عن انتهاكها بأي صورة من الصور». ولا يعرف المرء من أي مدونة سلوك يعرفها العالم في ماضيه أو حاضره، تم استقاء هذه القاعدة. فجميع مدونات السلوك أو مواثيق الشرف أو أدلة الإرشادات التحريرية في أي مجتمع متقدم تحت الشمس تنص بالقطع على «جواز التعرض للحياة الشخصية للأفراد في حال تقاطعت بوضوح مع المصلحة العامة، وفي حال نشأ اعتبار موضوعي واضح للتجاوز على حرمة الحياة الشخصية، بما في ذلك ما يتعلق بقضايا الفساد والاستغلال وسوء التصرف في الموارد».

وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد، فلا يعرف أحد تحديداً ما المقصود في الوثيقة بـ «القادة والرموز الوطنية والدينية»، ولا يعرف أحد أيضاً ما معنى صيانة هؤلاء من التعرض لهم بـ «تجريح». فكما هو واضح يمكن أن نعتبر كثيرين قادة أو رموزاً، كما يمكن أن نصنف أي نقد موضوعي لسياسات أو مواقف على أنه «تجريح».

على غرار التنظير المطاط نفسه، فالوثيقة تشير إلى «احترام حرية التعبير على أن تمارس بالوعي والمسؤولية، بما من شأنه حماية المصالح العليا للدول العربية والوطن العربي»، طبعاً من دون أي تفسير واضح لما تمثله هذه المصالح العليا أو تنطوي عليه.

لقد وُصفت الوثيقة من قبل خبراء ونقاد وناشطين إعلاميين وسياسيين كثيرين بأوصاف سلبية عديدة؛ منها أنها تمثل «رِدّة إلى عصر الوصاية»، أو «رجعية»، أو تتسم بـ «الغموض» وتحتشد بالمصطلحات «المطاطة»، وبأنها «مقصلة» على رقاب بعض المبدعين وبعض القنوات. كما احتفى كثيرون بالتحفظ القطري وشبه التحفظ اللبناني عن الوثيقة، بل ذهب بعضهم إلى أن هذا التحفظ «يؤكد أن البلدين (قطر ولبنان) وحدهما يعرفان الممارسة الإعلامية الحرة».

والواقع أن نُقاد الوثيقة ربما تعاطوا معها بالتسرع ذاته الذي عرفه من أعدها من خبراء ومن أقرها من وزراء، فقد تعامل الجميع مع الغرض السياسي في الوثيقة، وانقسموا حول ما إذا كانت تهدف إلى تنظيم البث أم تدجينه، وما إذا كانت قطر واحة الحرية أم عصا في دواليب الإجماع العربي وأداة تحريض من خلال «الجزيرة»، وتناسى الجميع النظر إلى هذا المولود غير محدد الجنس، والذي يعرف أي خبير متمرس مطلع على تجارب دول العالم المختلفة في هذا الصدد، أنه مجرد خلط غير محترف وغير برئ بين ثلاثة أنواع من الوثائق والأدلة الواجب توافرها في أي نظام إعلامي.

نحتاج أن ننظم الفضاء كما سبق ونظمنا البث الإذاعي في القرن الفائت بوثائق إطارية إجرائية ذات طابع قانوني، كما نحتاج ميثاق شرف عربياً موضوعياً ومتطوراً، يعالج المسائل التحريرية والضوابط الأخلاقية الضرورية لمواكبة أي من أنشطة البث، وأخيراً نحتاج أدلة إرشادية تحريرية ومؤسسات دقة عامة لمتابعة التزام المعايير المهنية والأخلاقية في الأداء الإعلامي، بعيداً عن أغراض السياسة، وشره الحكومات للقمع والتحجيم، وقلق وزراء الإعلام على وزاراتهم التي تشرف على الانقراض هناك وهنا وفي كل مكان في العالم.

* كاتب مصري