Ad

التجربة الديموقراطية في الكويت، يرجع نجاحها، إلى أمرين أساسيين هما: ما تتميز به هذه التجربة من شفافية تُجرى من خلالها الانتخابات البرلمانية، تحت إشراف قضائي كامل، فضلاً عن أن الدستور الكويتي أخذ بالمفهوم الكامل للديموقراطية الذي لا يقتصر على مفهومها السياسي، بل امتد إلى المفهومين الاقتصادي والاجتماعي.

في مقال الاثنين الماضي تحت العنوان ذاته، طرحت في نهاية المقال سؤالاً حول أسباب نجاح التجربة الديموقراطية في الكويت، على الرغم من اخفاق التجارب السابقة في دول أخرى، وفي ظل غياب الأحزاب والتعددية السياسية؟

وأزعم أن إخفاق هذه التجارب يرجع إلى أن الحقوق السياسية التي منحتها أنظمة الحكم في هذه الدول لشعوبها في غياب الأحزاب والتعددية السياسية، إنما كانت كلمة حق يراد بها باطل، وهي إعطاء هذه الشعوب ديموقراطية شكلية، كترياق لبقاء هذه الأنظمة في السلطة والحفاظ على مصالحها، ولإعطاء السلطة القدرة على المناورة كدولة ديموقراطية في المحافل الدولية وفي علاقتها بالدول الأخرى، ولهذا عملت هذه الأنظمة على تفكيك شرائح مجتمعاتها، وحالفت النخب وحدها بالامتيازات والإغراءات لتحول دون دمجها ضمن طموح مجتمعاتها ككل، وهو ما استفز شعور الغالبية العظمى من المواطنين، مما أدى إلى قلاقل واضطرابات وعدم استقرار في بعض هذه التجارب، على الرغم من محاولة بعض هذه الأنظمة اضفاء شكل ديموقراطي على نظامها، من خلال هذه النخبة التي أنشأت منها حزباً تتولى باسمه الحكم، وقد سمح بعضها بقيام أحزاب هشة إلى جواره وسَخّر بعضها أجهزة الدولة كلها لنجاح هذا الحزب في الانتخابات البرلمانية، ليفوز بكل أو أغلب مقاعد البرلمان، واستخدمت في ذلك الأساليب كلها، ومنها تزوير الانتخابات وتزييف إرادة شعوبها.

أما التجربة الديموقراطية في الكويت، فيرجع نجاحها، فضلاً عن الحريات السياسية التي كفلتها لمواطنيها، حرية الرأي وحرية التعبير وحرية الصحافة، يرجع نجاحها الى أمرين أساسيين:

الأمر الأول: ما تتميز به هذه التجربة من شفافية تُجرى من خلالها الانتخابات البرلمانية، وتحت إشراف قضائي كامل من إعداد جداول الانتخابات إلى إعلان نتائجها، وهي انتخابات لا تتدخل فيها الحكومة إلى جانب مرشح دون آخر، مع إباحة الطعن أمام القضاء في كل مراحل العملية الانتخابية بدءاً من إعداد الجداول الانتخابية وتعديلها كل عام، وبذلك أصبح نواب البرلمان يدينون بنجاحهم إلى أصوات الناخبين وحدهم، ولا يدينون به إلى الحكومة أو إلى حزب حاكم، الأمر الذي ساعد على وجود معارضة قوية في البرلمان.

الأمر الثاني: أن الدستور الكويتي أخذ بالمفهوم الكامل للديموقراطية الذي لا يقتصر على مفهومها السياسي، بل امتد إلى المفهومين الاقتصادي والاجتماعي.

فلقد خطت الديموقراطية في الكويت خطوات أوسع مدى وأبعد كثيراً من الحدود التي تقف عندها الديموقراطية الليبرالية التي تعرضت فيها لنقد شديد بسبب عدم اهتمامها بالتكوينات الاجتماعية للشعوب، وترك الصراع الطبقي داخل المجتمع يتفاعل ويتصاعد من خلال الأحزاب، وهي التكوينات السياسية التي أفرزتها الممارسة الديموقراطية الليبرالية، التي أدت، في أصل نشأتها، إلى نشوء أحزاب النبلاء، وأحزاب تدافع عن الاقطاع، وأخرى تدافع عن مصالح العمال ومن ثم ظهور الأحزاب الشيوعية التي طالبت بالمساواة الاجتماعية إلى جانب المساواة السياسية.

فاستعاضت التجربة الديموقراطية في الكويت عن ذلك الصراع وتخطته، بأن كفل الدستور الكويتي للمواطن حق التعليم وحق العمل والمعونة في حال الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل، وخدمات التأمين الاجتماعي والمعونة الاجتماعية والرعاية الصحية.

ولم يقف الدستور الكويتي عند الحد الذي وقفت عنده الدساتير الأخرى، وهو الاعتراف للمواطين بهذه الحقوق من دون إلزام الدولة بأي التزام إيجابي نحو كفالتها، بل أوجب الدستور الكويتي على الدولة توفيرها، وقد استطاعت الدولة أن تحقق للمواطنين قدراً كبيراً منها اعتماداً على دخلها من النفط والطفرة في أسعاره التي أعقبت حرب أكتوبر، والتي لا تزال تحقق المزيد منها.

ولم يقف دستور الكويت عند تقرير الحقوق السياسية للمواطنين وحقوقهم الاجتماعية، بل حرص الدستور على أن يقرر أن الملكية ورأس المال والعمل مقومات أساسية لكيان الدولة الاجتماعي والثروة الوطنية، وأن الاقتصاد الوطني أساسه العدالة الاجتماعية وقوامه التعاون العادل بين النشاط العام والنشاط الخاص، وهدفه تحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج ورفع المعيشة وتحقيق الرخاء للمواطنين، وكان البناء الاقتصادي للمجتمع موضع مناقشات واسعة للمجلس التأسيسي في ثلاث جلسات من جلساته؛ كان محورها التوسيع على النشاط الحر. وقد نشأ عن الاقتصاد الحر الذي تتمتع به الكويت أن امتلك المواطنون زمام حقوقهم السياسية بعيداً عن هيمنة النظام في الدول التي توسعت في الأخذ بأساليب القطاع العام، بما أدى إلى تحويل المواطنين في تلك الدول إلى موظفين وأُجَراء لدى الحكومة، تابعين لها، وهم في الوقت ذاته يراقبون أعمالها، عندما ينتخب نفر بينهم لتمثيل الناخبين في المجالس التشريعية، وهو ما يُفرِّغ الرقابة البرلمانية من مضمونها ويجعلها شكلاً بغير مضمون.

وجدير بالذكر أنه كان من الضروري وقد استهدف نظام الحكم في مصر - في التعديلات الدستورية الأخيرة لسنة 2007 - الأخذ بمقومات اقتصاد السوق وتمكين القطاع الخاص من الحلول محل القطاع العام، والتشجيع على بيع وحدات القطاع العام، من دون أن يصطدم ذلك بالمفاهيم الاشتراكية التي حفل بها الدستور المصري، قبل هذا التعديل، الذي اقتضى إلغاء الأحكام المتعلقة بسيطرته وتحمله المسؤولية الرئيسية في خطة التنمية. وكان من الضروري أيضاً إلغاء المادة (86) من الدستور، فيما تنص عليه من أنه «يجوز للعاملين في الحكومة وفي القطاع العام أن يرشحوا أنفسهم لعضوية مجلس الشعب، وفيما عدا الحالات التي يحددها القانون يتفرغ عضو مجلس الشعب لعضوية المجلس ويحتفظ له بوظيفته أو عمله وفقاً لأحكام القانون»، لارتباط هذا النص ارتباط لزوم بدولة ذات نظام اشتراكي.

إلا أنه على النقيض من ذلك، فقد بسط التعديل الدستوري أحكام هذه المادة على الترشيح لعضوية مجلس الشورى، الأمر الذي جعل هذه المادة نشازاً في منظومة اقتصاد السوق، التي قامت عليه هذه التعديلات، الأمر الذي أفقد نصوص الدستور التناغم والتجانس وأوقعها في تناقض وتنافر، حتى مع ديباجة الدستور التي تتحدث عن الاشتراكية والمجتمع الاشتراكي.