Ad

إن الطالباني وضع شروطاً لقيامه بالوساطة بين جنبلاط والأسد على رأسها أن يوقف وليد حملته ضد النظام السوري، وأن يبدأ بمغازلة حلفاء سورية في لبنان. وفي الوقت نفسه يقوم الطالباني بعملية «جس نبض» الرئيس السوري، وهذا ما حصل بالفعل، والمعلومات المتوافرة من مصادر على معرفة بالخفايا، وذات مصداقية عالية، تشير إلى نجاح المرحلة الأولى.

كي نفهم إلى أي زاوية مظلمة وصلت إليها الأزمة اللبنانية، من المفيد والضروري معاً، متابعة تحركات شخصين، في الأيام القليلة الماضية، هما ديفيد وولش، مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، ووليد جنبلاط أحد أركان الموالاة والذي كان إلى الأسبوع الماضي من غلاة أعداء النظام السوري وحلفائه في لبنان، لكنه في الأيام الأخيرة أظهر «مرونة» أحدثت بلبلة وقلقاً في صفوف حلفائه القدامى، وبصورة خاصة «تيار المستقبل» بزعامة سعد الحريري. فما الذي حدث؟ وما تأثيراته في التحالفات السياسية؟ وبالتالي هل شقّ جنبلاط طريقاً جديدا؟ واذا كان هذا ما فعل، فإلى أين سيصل؟

تلك هي أسئلة مشروعة بدأت بالتداول على نطاق واسع في الشارعين السياسي والشعبي، ومع أنني، مع الكثيرين، لا نراهن بالمال ولا بالسياسة على مواقف وليد بيك المتقلبة، إلا أن هناك معطيات جديدة، بعضها بات معروفاً وبعضها الآخر لا يعلمه إلا القلـّة القليلة من المتابعين للاتصالات السرية الجارية اليوم على قدم وساق. لنبدأ بالأمور المعروفة على نطاق ضيق:

- أولاً: منذ عودته من زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة أصيب جنبلاط بهاجس إمكان تخلي إدارة بوش عملياً عن دعم مشروعها في لبنان، وفي رأي جنبلاط الذي همس به إلى عدد محدد من مستشاريه ومن المقربين إليه، أن واشنطن في طريقها إلى التخلي، نتيجة عجز وليس رغبة، عن استخدام عضلاتها في تنفيذ مشاريعها في المنطقة، واكتفت بعرض هذه العضلات. وهذا يعني أن واشنطن ستقاتل خصومها في لبنان وغير لبنان إلى آخر حليف لها، مستخدمة سلاح التأييد الكلامي فقط، مع العلم أن المعركة بحاجة إلى استخدام أكثر من التصريحات التخويفية. وحاول جنبلاط وغيره من الموالاة معرفة ما في ذهن الأميركيين عندما تصل الأزمة إلى مرحلة الانفجار الأمني، غير أن الأجوبة التي تلقاها من واشنطن زادت مخاوفه وهواجسه، وبالتالي ازدادت قناعته باحتمال بقائه وحيداً في الساحة. عندها فتح جنبلاط صفحة جديدة في دفتر جديد تحت عنوان «المصلحة السياسية الشخصية» تفوق أي اعتبار آخر. فهو، أولاً وأخيراً، وريث زعامة سياسية من المفروض أن يضحي بها في معركة لا تحتمل الخسارة الكاملة لهذه الزعامة. وبدأ جنبلاط خطة مزدوجة: المحافظة على الإرث السياسي بمعطياته الحالية من دون زيادة أو نقصان، وإذا كان لا بدّ من الخسارة، فالعمل على تحديد هذه الخسارة. لذلك بدأ يبتعد شيئاً فشيئاً عن حلفائه من دون أن يتخلى عنهم بشكل كامل ونهائي.

- ثانياً: إن جنبلاط يدرك أن الركيزة الأساسية في استمرار زعامته الدرزية هي مهادنة النظام السوري، الذي طالما نادى، بكثير من العنف، بضرورة زواله بأي وسيلة، كذلك يعرف أن دمشق تؤدي دوراً كبيراً في تكريس هذه الزعامة، نظراً لأن القرار الدرزي النهائي يأتي من السويداء السورية صاحبة الأكثرية الدرزية التي هي بمنزلة النجف بالنسبة للشيعة، والفاتيكان بالنسبة للمسيحيين. والسويداء قالت كلمتها في نهج جنبلاط بكثير من العنف وفي مناسبات مختلفة، وكان جنبلاط يراهن على زوال الحكم السوري نتيجة الوعود الأميركية والأوروبية، وبصورة خاصة، فرنسا. لكنه لمس أن هذه الوعود هي مجرد كلام بكلام فتحول القلق لديه إلى أرق ليلي وبصورة شبه متواصلة.

- ثالثاً: أيقن جنبلاط أن الخطوة الأولى لحماية إرثه السياسي، أو تحديد خسارته، يجب أن تكون باتجاه دمشق، عن طريق إعادة أو ترميم جسوره، فاستعان أولاً بحسن نصرالله، مما للسيد من نفوذ قوي لدى الرئيس السوري بشار الأسد. لكن نصرالله قال له عبر الوسطاء ما معناه: لقد حاولت خلال السنتين الأخيرتين... غير أنك لم تلتزم. والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. ثم اتجه جنبلاط، عبر الوسطاء، نحو نبيه بري الذي قال له ما معناه: خلال زياراتي السابقة إلى دمشق وجدت طريقك مسدوداً. ونصيحتي أن تبدأ بناء جسر الثقة أولاً وقبل أي شيء آخر.

- رابعاً: عندها فتح جنبلاط دفاتره القديمة، وجد أن روسيا وزعيمها «بوتين» مؤهل للقيام بالدور المطلوب. وجنبلاط يعتبر روسيا جزءاً مهماً من إرث أبيه كمال جنبلاط السياسي، وقد حافظ الابن على هذا الإرث حيث أبقى جسوره مع موسكو مفتوحة. لكن ما حدث في الأسبوعين الأخيرين زاد من قلقه ومن أرقه الليلي. فالسفير الروسي في بيروت، قام ولأول مرة بزيارة إلى الوزير السابق وئام وهاب في قريته الجاهلية بالشوف حيث أمضى نهاراً كاملاً في ضيافته. وئام وهاب هو العدو الدرزي رقم واحد لجنبلاط وزيارة السفير الروسي له تحمل معنى سياسياً كبيراً مما جعل أجراس الإنذار لدى جنبلاط تقرع بمنتهى القوة. فقد اعتبر أن هذه الزيارة إشارة واضحة إلى أنه في طريقه إلى خسارة ما تبقى من إرثه في موسكو. وبالرغم من أن السفير الروسي قام في الأسبوع الذي تلا زيارة وئام وهاب، بزيارة المختارة، مركز الزعامة الجنبلاطية في منطقة الشوف، فإن ذلك لم يخفف من رنين وطنين أجراس الإنذار. رافق ذلك مطالبة سفير روسيا بالأمم المتحدة بإطلاق سراح الضباط الأربعة المتهمين بعلاقة ما بمقتل الحريري.

- خامساً: وفي إحدى زوايا دفاتره القديمة التي تركها له أبوه كمال بك، وجد هامشاً مهماً عن علاقة قوية كانت تربط الأب، منذ الستينيات، بالرئيس العراقي الحالي جلال الطالباني. وسرعان ما قرع وليد باب الطالباني حيث وجد تجاوباً بإمكان التوسط بينه وبين الرئيس السوري بشار الأسد، غير أن الطالباني وضع شروطاً لقيامه بالوساطة على رأسها أن يوقف وليد حملته ضد النظام السوري، وأن يبدأ بمغازلة حلفاء سورية في لبنان. وفي الوقت نفسه يقوم الطالباني بعملية «جس نبض» الرئيس السوري. وهذا ما حصل بالفعل. والمعلومات المتوافرة من مصادر على معرفة بالخفايا، وذات مصداقية عالية، تشير إلى نجاح المرحلة الأولى. يبقى على جنبلاط أن يثبت مصداقيته بـ«التكويع» مرة أخيرة ونهائية، وهذا ما دفع جنبلاط إلى لقاء نبيه بري تحت ظلال جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في 22 أبريل. وهناك من يقول إن بري لم يؤجل جلسة الانتخاب -كعادته- قبل 24 ساعة من موعدها، ليختلي بجنبلاط أمام عيون الجميع وليس مسامعهم. كذلك فإن بري أبلغ جنبلاط أنه لمس من بشار الأسد عدم اعتراض على ذكر امكان عودة وليد إلى التغريد في سربه القديم. وفسّر بري لجنبلاط أن ملاحظته هذه تدخل في إطار الإيجابية التي يجب البناء عليها.

وما يثبت نجاح الفقرة الثانية من وساطة الطالباني أن بري أعلن إيجابية وليد بالنسبة لبعض مطالب المعارضة وأهمها الحوار الذي دعا إليه بري، وفي اليوم التالي أكد جنبلاط بتصريح على ذلك، بل ذهب إلى الأبعد عندما ذكر أن سلاح المقاومة موضوع مؤجل البحث إلى حين اكتمال الظروف الموضوعية له.

أما زيارة وولش غير المتوقعة إلى بيروت، فقد كانت لإعادة الثقة المهزوزة لدى جنبلاط بنوايا الإدارة الأميركية. لكن وولش لم ينجح بمهمته بل زاد «الطين بلّـة» بتصريحه عن «صيف حارّ جداً للبنانيين» هذه السنة، منتقلاً من وظيفة الرصد السياسي إلى وظيفة في مصلحة الأرصاد الجوية العالمية.

بالرغم من كل هذه المعطيات، فإنني ما زلت متردداً في المراهنة المالية والسياسية على موقف وليد جنبلاط النهائي.

* كاتب لبناني