خلافاً للدولة العلمانية الحساسة للجهد البشري، فإن الدولة الدينية والعقيدية هي دولة كتيمة أو منغلقة دون الفاعلية البشرية، فمن جهة هي دولة كاملة، وكمالها يقف عائقاً دون التطور الذي يفترض النقص، ومن جهة أخرى هي معدومة أو ليست دولة، والعدم لا يتطور بدوره، ثم إن العقيدة الدينية تعلو على المبادرة البشرية.الدولة جهاز بشري دنيوي، يختزن خبرة أصيلة تتصل بالاجتماع البشري وما يخترمه من صراعات وضعف وما يتقبله من تسويات وتعاون. ما من دولة ليست كذلك. حتى الدول التي يفترض أنها تقوم على الدين، أي على عقيدة تتصل بمعنى الحياة وأصلها ومآلها وبخبرة الموت الأصيلة بدورها. جل ما يمكن قوله عن الدول الأخيرة هو أن جهاز الحكم لا يتسق مع الروح المحركة له (التي ترتد في القاع دوماً إلى عقيدة مشرعة). ونتحدث عن جهاز عامدين لنقول إن الدولة التي ينفصم وعيها الذاتي (الديني والروحي) عن واقعها الفعلي (الدنيوي والسياسي) لا تترقى إلى مؤسسة. تبقى جهازاً مادياً أو أداة سلبية بالكامل، بينما الإيجابية والشرعية يأتيانها من الخارج، من الدين. فالدولة الدينية جهاز سلطة أو قوة، تضاف إليه من خارجه، من دون أن تمتزج به وتحوله من داخله، فكرةٌ دينية ذات منشأ مختلف تماماً. مثل ذلك ينطبق على كل دولة عقيدية. الدولة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية السابقة، والدولة البعثية في بلادنا. هذه الدول أدوات حكم، تسيرها عقيدة أو رسالة تنقل إليها من خارجها، كما ينقل الوعي إلى الطبقة العاملة من خارجها في نظرية التنظيم اللينينية. ومن طبائع هذه الدول أن العقيدة أو الرسالة المفترضة لها تغدو، خلال وقت قصير، قناعاً لمصالح ورغبات الطاقم الحاكم. إذ تفتقر الدولة الجهازية، لأنها جهازية، أي بلا شخصية ووعي ذاتي، إلى المناعة الذاتية ضد استخدامها الخصوصي والأداتي. ولأنها كذلك بلا شخصية، فإنها «تتشخصن» بسهولة. هذا ينطبق على أكثر دولنا العربية. حين «تُشخصّن» سورية مثلاً بأنها «سورية الأسد»، فهذا لأن الدولة السورية ضعيفة الشخصية، أوهى من أن تكون إطاراً فاعلاً لإجماع السوريين وتسوية منازعاتهم المحتملة. دولة كهذه «تستسلم» بسهولة للطاقم الحاكم ومصالحه وتفضيلاته.
والخلاصة، الدولة الدينية أو العقيدية هي دولة أداتية بالضرورة، دولة لا ذاتية لها. سلطة محض. هذه السلطة ثقل ميت، عدم. الدولة الدينية، لذلك، ليست دولة. أما الروح المحرك لهذا الثقل فهو الدين أو العقيدة.
لكن هل يستطيع الدين أن يكون روحاً للدولة؟ أبدا. فالدولة كائن سياسي ولا يمكن لروحه إلا أن تكون روحاً سياسية من نوعه، أي روحاً تفاعلية بشرية. والروح السياسية تستبطن تجربة دنيوية، تتحرك بين الأخوة والحرب المفتوحة بين الناس، أي بين اجتماع بلا «تناقضات، يغني عن السياسة تماماً، وبين تناقضات مطلقة لا تقبل التسوية وتجعل السياسة مستحيلة. فإذا ركبت للدولة روح دينية، تحصل حالة عدم توافق من نوع ما قد يحصل حين يُطعَّم جسد نوع حي بعضو من جسد نوع حي آخر. هذا لأن الروح الدينية تتصل بتجربة مختلفة تماماً عن التفاعل بين البشري، هي خبرة الاتصال بما يتجاوز الحس ويتعالى على الكون من قوة منشئة وراعية. ولذلك لا تطور الدولة الدينية، وكل دولة غير سياسية، شخصية ذاتية. وأكثر من ذلك، هذه الدول الجهازية حتماً تميل إلى أن تكون عادمة للشخصية، لا تسمح بنشوء وقيام شخصيات مستقلة من أي نوع في مجال سلطتها، لا ديناً مستقلاً، ولا ثقافة مستقلة، ولا طبقات اجتماعية مستقلة، ولا مدناً مستقلة... الدين ذاته يفقد روحه بدل أن يكون مصدراً للروح في الدولة الجهازية. وهذا ما ينطبق على الإسلام التاريخي. فقد استولت عليه دول أداتية منذ وقت مبكر، وردته إلى «شريعة» وفقه، وأفقدته روحه. ولا يتلهف الإسلاميون إلى السلطة، ما يسمونه دولة إسلامية، إلا لأنهم ورثوا إسلاماً بلا روح دينية خاصة به. هو لذلك يسعى وراء روح سياسية، بقدر ما تسعى الدولة الجهازية إلى روح دينية. لكن هذا لا يحل أي مشكلة، فقط يجعل استقلال كل من الدين والدولة بأمرهما مستحيلاً.
بالعكس، في الدولة السياسية، ذات الشخصية المستقلة والروح الموافق لكيانها، الدين ذاته يطور روحاً ذاتية مستقلة، روحاً دينية وإيمانية.
وليست العلمانية كما تطورت في الغرب غير النظرية التي تضفي الوعي الذاتي والاتساق على دنيوية الدولة، وهي تالياً روح الدولة الموافقة لها، أو الفكرة التي تمتزج بها وتمثل إدراكها لذاتها. وللفكرة العلمانية دوران آخران في هذا السياق. فهي أيضا تضفي الإيجابية على تمايز الدولة عن الدين أو انفصالهما، والسلبية على ربط الدولة بالدين أو بأي عقيدة اجتماعية أو سياسية خارجة عنها. والدور الآخر لنظرية العلمانية هو جعل استقلال الدولة عملية غير عكوسة، أو حراسة التمايز بينها وبين العقائد الاجتماعية. فالعلمانية، إذن، وعي ذاتي لدنيوية الدولة، يضفي عليها قيمة إيجابية ثابتة، لا تنقلب. وبما هي كذلك، أو كوعي ذاتي لواقع الدولة الدنيوي والبشري، فإن العلمانية ليست عقيدة تُفرض على الدولة من خارجها. إنها مكون ذاتي لها، يتجلى في دستورها وقوانينها وبناها الذاتية وآليات ضبط وتجديد السلطة فيها، وتكون في الأصل في العملية التاريخية المديدة التي تمخضت عن تكون الدولة الحديثة كدولة بشرية ودنيوية، دولة - أمة. وبما هي مقوم لذاتية الدولة وبشريتها، فإن العلمانية تؤسس لتكون الدولة ككائن حي، كمؤسسة حية، مفتوحة على الفاعلية البشرية العقلية والعملية ومستجيبة لها. هنا ثمة اتساق وتزامن وتواز بين الدولة والفاعلية البشرية، وهذا مبدأ مرونة وانفتاح للدولة. ووعي دنيوية الدولة وبناء السياسة حوله تطور كبير وثوري في التاريخ البشري. فعلى أساسه فقط أمكن ترويض هذا الغول الفتاك في الغرب، والإخفاق فيه هو سر ترويض مجتمعاتنا وتحولنا إلى خراف يرعاها الغول ويلتهمها أنّى شاء.
وخلافاً للدولة العلمانية الحساسة للجهد البشري، فإن الدولة الدينية والعقيدية هي دولة كتيمة أو منغلقة دون الفاعلية البشرية، فمن جهة هي دولة كاملة، وكمالها يقف عائقاً دون التطور الذي يفترض النقص، ومن جهة أخرى هي معدومة أو ليست دولة، والعدم لا يتطور بدوره. ثم إن العقيدة الدينية تعلو على المبادرة البشرية، والأداة أو الجهاز لا يستجيبان لها (للعقيدة). ويتيح تخارج الجهاز والفكرة لمن يسيطرون على الجهاز أن يستخدموا الفكرة لتثبيت سلطتهم وجني المكاسب المادية والمعنوية. فكما سبقت الإشارة الدولة الجهازية بلا شخصية، لا تستطيع من ثم الدفاع عن نفسها ضد غزوها من قبل الشرائح الأقوى في المجتمع.
بيد أن هناك مشكلة في تصور العلمانية السائد لدينا يجعله أقرب ما يكون إلى عقيدة يراد ربط الدولة بها. هذا يعود ربما إلى انفصال تصورنا للعلمانية عن الممارسة الاجتماعية وعن الحركات والمقاومات التي تعمل على ترويض الدولة. لكن نتيجته أن العلمانية تكف عن كونها وعياً ذاتياً لدنيوية الدولة، لتغدو وعياً ينقل إلى الدولة من خارجها كما هي حال الدين وعقائد سياسية أخرى.
والسؤال هنا: هل يمكن حقن دولنا القائمة بروح سياسية؟ هل يمكن ترويضها وأنسنتها؟ أم لا بد من هدمها وبنائها من جديد؟ وكيف يمكن للدين أن يكون روحاً خاصاً لنفسه، روحاً دينية غير سياسية؟
ما نرجحه هو أنه لا بد من إعادة تشكيل الدين والدولة في بلادنا. فالدولة الجهازية فاقدة الروح وعادمة الشخصية من جهة، والدين الفقهي المتطلع إلى السيطرة على الدولة من جهة أخرى، قرينان، لا مجال لإصلاح واحدهما من دون إصلاح الآخر. بناء الدولة السياسية والدين الديني، إن صح التعبير، وجهاً لعملية إصلاح تاريخية كبيرة، لعلنا نلجها اليوم من دون أن ندرك ذلك. عملية خطيرة ومؤلمة جداً، لكن لا مهرب منها.
* كاتب سوري