Ad

تجني الحكومة والمجلس فوائد كبيرة من وراء وجود ديوان المحاسبة، والتقارير التي يصدرها سنويا لمراقبة مصروفات وإيرادات الدولة، وتأتي هذه الفوائد، لكون هذه المؤسسة مستقلة ومحايدة وموضوعية، والقول بإضافة «أسنان» إليه، من خلال صلاحية الإحالة إلى النيابة، يحتاج إلى تفكير بالعواقب!

ما اهمية ان يكون هناك جهاز للرقابة على تحصيل ايرادات الدولة وانفاقها؟ وان تكون من مهام هذا الجهاز كشف حالات الاختلاس والاهمال والمخالفات المالية، وكيف تعامل كل من مجلس الامة والحكومة مع تقارير الديوان التي اخذت في التوسع والتخصص والدقة الشيء الكبير؟ والى اي مدى اعطى اهتمام السلطتين بتلك التقارير قيمة لها؟ وكيف سيساعد اقتراح البعض اعطاء الديوان صلاحية احالة المخالفات المالية والادارية الجسيمة الى النيابة اعطاء دفعة نحو مساءلة اكثر جدية؟

اسئلة كثيرة تثار بشأن جهاز ديوان المحاسبة الذي قرر الدستور في مادته 151 تشكيله والحاقه بصورة رمزية بمجلس الامة.

ويتكون القانون رقم 30 لسنة 1964 الخاص بانشاء ديوان المحاسبة من 73 مادة تتوزع على ابواب مختلفة هي: اهداف وتشكيل الديوان - الجهات التي تشملها رقابة الديوان واختصاصاته وطريقة مباشرته - نظام موظفي الديوان - المخالفات المالية وتأديب المسؤولين على ارتكابها.

وقد شرع الديوان بتطوير نوعية الرقابة على اجهزة الدولة ما انعكس على نوعية التقارير الصادرة عنه، فهناك التقرير السنوي الخاص بمراقبة مصروفات وايرادات الوزارات والادارات الحكومية، والجهات الملحقة، والجهات المستقلة، وقد خص الاخيرة بتقريرين منفصلين الاول عن القطاع النفطي، والآخر عن قطاع الاستثمار، وهما قطاعان يتم من خلالهما تداول كميات كبيرة من الاموال العامة التي يتطلب ترشيد صرفها وتحصيلها رقابة على مستوى دقيق وعال.

وعودة الى الاسئلة التي تم طرحها بدءا، فإن الحديث عن دور الديوان يتركز دوما على سؤال بديهي بسيط وهو: ما فائدة هذه التقارير الدقيقة والمفصلة التي تكشف حركة المال العام صرفا وايرادا؟ الحقيقة ان التدقيق في جوهر هذا السؤال يؤدي بنا الى مسألة اخرى وهي: لماذا لا تتوسع صلاحيات الديوان لتكون لديه «اسنان»؟، اي منحه صلاحية احالة المخالفات الى النيابة العامة.

والحق انه مع وجود السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والقضاء مجتمعين، فان وجود مثل هذه التقارير يبدو اكثر من مهم خصوصا بعد اعتماد القانون رقم 1 لسنة 1993 بشأن حماية المال العام، فمن جهة يحق لنا الحديث عن وجود رصد مهني وحيادي لمالية الدولة بشكل سنوي منتظم، ومن جهة اخرى فإن اصدار هذه التقارير وفق صيغة الرقابة اللاحقة، وبحسب نطاقها المقرر في المادتين 8 و9 وغيرهما من المواد تقدم الى كل من: رئيس الدولة ومجلس الامة ومجلس الوزراء ووزير المالية والصناعة بحسب المادة 22 من قانون انشائه، وهنا يمكن الحديث - بكل ثقة - عن اصول للرقابة المالية من خلال السلطتين: التشريعية، عبر توصياتها بالاحالة الى النيابة للمخالفات التي تظهر عبر لجان التحقيق إلى لجنة حماية المال العام او ما يرد للاخيرة من تكليفات من المجلس بالتحقيق في حوادث معينة من جهة، ومن جهة اخرى السلطة التنفيذية بصفتها الراعية الاولى للعملية المالية والادارية في المؤسسات التابعة لها، وبموجب القوانين السارية بشأن حماية المال العام.

وبالتالي، وتأسيسا على وجود سلطتين تتكفلان بالتعامل بآليات متنوعة مع القضاء، فإن الحديث عن اعطاء صلاحية اضافية للديوان ليحيل هو الآخر قضايا التجاوزات والفساد الى النيابة العامة يصبح حديثا غير ذي جدوى، بل ان الاصرار على هذه الصلاحية وتنفيذها عبر تعديل تشريعي سيفقد الديوان صفة الاستقلال والحياد التي طالما عرفت عنه منذ انشائه في عام 1964، وسيكون من نافل القول ان هذه الصلاحية ستمهد طريقا لادخال هذا الجهاز الفني والمهني في أتون الصراع السياسي الكلاسيكي بين المجلس والحكومة، وهو صراع ممتد ومتشابك في بلد يعتمد الصرف فيه على ثروة هائلة تدر على خزينته مبالغ ضخمة يوميا، والتي هي بحاجة ماسة الى المراقبة والمتابعة في ظل العطب الاداري المستشري في اجهزة الدولة ومؤسساتها، حيث تهدر يوميا الأموال الطائلة بسبب التراخي في التحصيل او الاهمال او الاختلاس، وهي صورة يؤكدها الديوان سنويا في تقاريره المتقنة.

ولا يخفى على المراقب ان كثيرا من الاستجوابات التي تقدم بها اعضاء في مجلس الامة لوزراء كانت قد اعتمدت -او في جزء منها- على تقارير ديوان المحاسبة، ومثال على ذلك استجواب وزير التربية د.احمد الربعي 1992، واستجواب نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء ووزير الدولة لشؤون مجلس الأمة محمد ضيف الله شرار عام 2003.

بيد ان الحديث عن تطوير رقابة الديوان يجب الا يقف عند حد، فهناك مواضع اخرى يجب الالتفات اليها، فتكون رقابة الديوان تعد لاحقة وسابقة على المؤسسات والشركات التي يكون للدولة أو احد أشخاص القانون العام الاخرى، حصة في رأسمالها لا تقل عن 50% منه فإن الأمر -وبالتجربة العملية- أصبح يتطلب نوعا من الرقابة في اثناء تنفيذ المشاريع، خصوصا بعد التغول في استخدام صيغة الأوامر التغييرية للمشاريع الانشائية، التي تفوق تكلفتها احيانا قيمة المشروع الاساسية!

كما ان من جوانب التطوير المطلوب تعزيزها اضافة الى ما سبق، المساهمة في توعية وإرشاد المؤسسات والشركات التي تقع تحت رقابة الديوان، وتجنيبها عبر التجربة الوقوع في ذات الاخطاء المتكررة سنويا.

ويتحمل ديوان المحاسبة اليوم عبئا كبيرا في مجال الرقابة المالية والادارية بحكم قانون انشائه، إلا ان الحاجة دائمة الى تطوير وتأهيل كادره الفني ومجالات الرقابة، وكيفية التعامل مع الاجهزة الحكومية والمستقلة في البيئة الكويتية.

ويتأمل دوما بذل المزيد من الصرف على برامج التدريب للوصول الى الكفاءة المطلوبة في مجال عمل الديوان، وكان وكيل الديوان قد أكد في حديث صحافي منشور ان صرف دينار واحد على الجهاز يأتي بعائد قدره 60 دينارا، وذلك بناء على مؤشر قياسي دولي معتمد.

مئة تقرير خلال العشرين عاماً الماضية

يمارس ديوان المحاسبة رقابته المالية على جميع الجهات المشمولة برقابته، ولا توجد جهة من الجهات تضعف فيها رقابته، بل يباشر مدققو ومفتشو الديوان مهامهم بكل قوة، مستندين في ذلك الى نصوص الدستور والقانون والدعم السياسي الذي يحظى به الديوان من حضرة صاحب السمو، ومن رئيس مجلس الأمة واعضاء المجلس، وشعاره في ذلك «رقباء وشركاء»، حيث إن الديوان يعتبر نفسه شريكا مع الدولة والشعب في الحفاظ على المال العام.

وديوان المحاسبة جهاز لا يتدخل في قرارات الجهات الخاضعة تحت رقابته، بل يقوم بالتدقيق على ميزانياتها، وما هو مرتبط بإيراداتها ومصروفاتها، ويستند في عمله التدقيقي على المستندات الرسمية والوثائق المعتمدة، ويسجل ملاحظاته على ما تم من صرف وايراد، وإذا اكتشف مخالفة فإنه يرصدها ويوثقها في تقريره السنوي الذي يقدمه إلى سمو الامير، ورئيس مجلس الامة والوزراء والنواب، لذلك، فإن الجهات المشمولة بالرقابة لديها الصلاحية لاتخاذ قراراتها بالسرعة التي ترغب فيها من دون تدخل من الديوان، ولكن عليها ان تلتزم بالنظم الرسمية واللوائح المعتمدة فإذا ما خالفت هذه النظم واللوائح فإنها تتعرض للمخالفة من قبل مفتشي الديوان، وبشكل لا مجاملة فيه حرصا على المال العام وتنفيذا للواجب الوطني. وسيساعد إلحاق مهمة احالة الجهات المخالفة إلى النيابة عن طريق الديوان في الحد من المخالفات بحيث يعطي الديوان الصلاحية والحق في الاحالة من دون الرجوع الى سلطات اخرى، وبذلك تغيب الدوافع السياسية وتنتهي الواسطات التي من شأنها ان تؤثر في قرارات الوزراء.

الا ان دور «الديوان» يقف عند إبداء موقفه ووجهة نظره، ورصد المخالفة وتوثيقها في التقارير الرسمية ورفعها الى اعلى مسؤول في البلاد وهو صاحب السمو. وليس من اختصاص «الديوان» أن يأمر بوقف المخالفة وليس لديه صلاحيات تنفيذية، بل ان ذلك من اختصاص الوزارات والجهات الخاضعة لرقابته، فإذا شاءت ان تتعاون مع الديوان في معالجة المخالفات وعدم تكرارها فلها ذلك، وإن شاءت أن تكررها فهي المسؤولة عن قرارها، ويكون لزاما على «الديوان» حينها ان يكرر توثيق المخالفة، ويشير اليها بوضوح في تقاريره الرسمية من جديد.

هناك اكثر من مئة تقرير قدمها الديوان خلال العشرين سنة الماضية منها على سبيل المثال: تقرير مخالفات المرور، وتقرير العلاج في الخارج، وتقرير البورصة وتقرير الـBOT، وغيرها الكثير.

ومن أبرز التطورات التي طرأت على آلية عمل «الديوان» منذ إنشائه حتى الآن أن ستة رؤساء واربعة وكلاء مسؤولين تولوا مسؤوليته خلال 43 عاما نما خلالها الديوان من أعداد قليلة لا تتجاوز العشرات إلى حوالي 700 موظف اليوم أو أكثر بنسبة 85% عمالة وطنية، كما تواكبت مسيرة «الديوان» مع احتياجاته المهنية فأصبح لديه اليوم ستة قطاعات تقوم بواجبها خير قيام، واهتم الديوان بقطاع الاستثمار ووضع له قطاعا يرأسه وكيل مساعد، ويضم عدة ادارات، وكذلك خصص قطاعا كاملا للنفط برئاسة وكيل مساعد، ومجموعة من الادارات المتخصصة، كما اولى الديوان اهتماما كبيرا بالتدريب، وللديوان حاليا تعاون كبير مع المنظمات الخليجية، والعربية، والعالمية في مجال التدريب وله دور مهم في تدريب الكوادر العربية والخليجية، كذلك يهتم بالمشاركات الدولية والاقليمية ولا يتردد في المساهمة فيها بالكوادر البشرية والدعم المالي، ويستضيف الكثير من الاجتماعات العربية والعالمية، ففي عام 2007 استضاف الديوان اجتماعات اللجنة التنفيذية لمنظمة الاسوساي، وفي عام 2008 سيستضيف اجتماعات منظمة الارابوساي واجتماعات الملتقى العربي الأوروبي لهيئات الرقابة المالية، كما اهتم «الديوانط بالاعلام الرقابي، لإيمانه الكامل بضرورة توعية المجتمع في مسائل حماية المال العام.

مد وجزر

ربما ارتبطت الدعوات الأخيرة بشأن تعديل قانون ديوان المحاسبة لتكون له صلاحية الاحالة الى النيابة بالجو العام الذي تعيشه الكويت والانتشار غير المعهود للفساد المالي والاداري في أجهزة الدولة.

ويبدو أن الربط بين قيمة تقارير ديوان المحاسبة ووجود مجلس يملك إرادة المحاسبة والمساءلة للقضايا التي يطرحها التقرير رابط تحكمه علاقة عكسية، فمتى ما *كانت هناك أجواء مواتية للمحاسبة كانت هناك قيمة لتقارير الديوان. نضرب على ذلك مثالا ففي حقبة التسعينيات، وبُعيد التحرير نشط المجلس في قضايا المال العام كاختلاسات المال العام، وقضية شركة الناقلات ومصروفات الدفاع، وقد نتج عنه اصدار تشريع لحماية المال العام، وتأسيس لجنة برلمانية متخصصة بالموضوع عدا التفاعل الشعبي، مع ذلك الجو الذي اسس ايضا لجنة أهلية للدفاع عن المال العام ولاحقا جمعية الشفافية، لكن تركيبة المجلس الحالي ربما لا تعين على خلق جو شبيه بما كانت عليه الحال في التسعينيات، ولذلك ومن باب صرخات العجز يتداول البعض فكرة تقوية ديوان المحاسبة بتعديل قانونه، وهي مسألة ردود أفعال وتقييم لحالة عامة تعيشها المؤسسات الرسمية والبرلمان تتصف بالعجز وعدم الفعالية، وفي مثل هذه الأجواء يكون من الخطورة اتخاذ قرارات جوهرية غير محسوبة، ولندع ديوان المحاسبة جهازا مهنيا مستقلا متطورا وموضوعيا.

م. ع