تسكُّعات في المدن العربية

Ad

في بداية الثمانينيات الميلادية وآخر السبعينيات من القرن المنصرم، كان من عادتي حينما أنوي السفر للتسكع والتصعلك في أرجاء الدنيا الواسعة، أن أرتدي بنطالا من الجينز وقميصا مخططا، وأعلّق على كتفي حقيبة من وبر الإبل نسجتها أمي -يرحمها الله- وكانت بمنزلة «مزودة» أضع فيها ملابسي وأوراقي، ثم أنطلق إلى أية جهة تخطر في البال، وذات مرة هبطت دمشق حيث كانت في ذلك الزمن تعج بالمثقفين والصعاليك من مختلف بلاد العرب، ثم اتجهت فورا إلى ساحة المرجة؛ لكي أسكن في غرفة بسيطة في فندق رخيص أجعله محطة ثابتة، أنطلق منها لممارسة الصعلكة، وأعود لها أحيانا في أواخر الليل، وأحيانا قد لا أعود إليها إلا بعد عدة أيام؛ إذ إن لي علاقة وطيدة بصعاليك المدينة وسكان شوارعها الخلفية، وضواحيها الفقيرة، وكانت تلك العلاقة مزيجا من المثقفين والبسطاء والسوقة و«الزعران» والغرباء الذين يتجولون في أنحاء المدينة مثل الشاعر العراقي الراحل الصافي النجفي -يرحمه الله- الذي كان بدويا مثلي، إلاّ أنه لا يخلع مطلقا لباسه العربي من ثوب أبيض وغترة وعقال وعباءة سوداء مهترئة، وكنت كثيرا ما أشفق عليه وأمده بالنقود وأتقاسم أنا وإياه رغيف الخبز طوال إقامتي في المدينة، وحينما لا أجد الصافي أتجه إلى مقهى «الليتيرنا»، حيث أجد ممدوح عدوان الشاعر السوري الرائع والراحل، وكذلك أجد الشاعر الكبير علي الجندي، والفنان صباح عبيد الذي أصبح الآن نقيبا للفنانين السوريين، وحينما لا أجد أحدا منهم في «الليتيرنا» أجلس وحيدا أستمع إلى السيمفونيات الرائعة التي تصدح في أرجاء المكان، ثم أنتقل في الليل بحثا عن مضارب «الغجر» الذين صادقتهم كثيرا وكنت أستمتع بأغانيهم الريفية حتى الصباح، بعيدا عن ضجيج الملاهي التي تصدع موسيقاها الرأس، والحق يقال إن الغجر في ذلك الزمن كانوا يمتهنون الفن فقط، ولا يمكن لنسائهم أن تمارس الرذيلة على الإطلاق، مهما كان الثمن؛ ولذلك أحببتهم وأقمت معهم علاقة حميمة جيدة، وذات ليلة حينما عدت إلى فندقي وأويت إلى غرفتي الصغيرة لست أدري كيف ضاعت مني نقودي؛ إذ ما ان نهضت بحثت عنها ولم أجدها، فاتهمت عمال الفندق بذلك، الذين أنكروا تلك التهمة الظالمة -بالفعل- وبعدما شكوتهم إلى قسم الشرطة وأجرى التحقيق اللازم، وأخلى سبيلهم وبقيت حائرا في المدينة بلا نقود، بالرغم من أنني قد دفعت إقامتي في الفندق لنصف شهر قادم، وبينما أنا في هذه الحالة «الحيص بيص» قررت اللجوء الى السفارة الكويتية، فرفعت سماعة الهاتف وطلبت الملحق الإعلامي لعله يعرفني، وبالفعل ما ان سمع باسمي حتى رحب بي أجمل ترحيب، وقال لي إنه يقضي إجازة نهاية الأسبوع في ريف دمشق، ووعدني بأنه ما ان يعود فسيأتي إليّ شخصيا وهو يحمل ما أحتاج إليه من نقود.

ولأنني حينها لم يبقَ في جيبي سوى ثمن القهوة، فقد قررت التقشف الشديد حتى يعود الملحق الإعلامي لإنقاذ جيبي من «الفَلَسْ»! لذلك ذهبت أذرع الشوارع بلا هدى وكنت حزينا مغموما و«طفران» أيضا، حتى إذا ما أنهكني التعب ارتميت على أقرب كرسي في مقصف مفتوح وكان قليل الرواد، ثم رحت أتأمل أغصان الأشجار؛ لأنني لا أملك أكثر من ذلك.

وكان بالقرب مني أربعة شبان يقهقهون بأعلى الصوت، ثم رمقني أحدهم بنظرة فاحصة وكفوا عن الضحك وتلفتوا إليّ، ثم نهض أحدهم وجاء ليصافحني بقوله هل أنت فلان؟! فقلت (كله) فقال لي أنا زميلك (محمد أمين القدومي) من قسم المحاسبة في جريدة السياسة، ولم أملك حينها إلاّ أن أضمه وأقبله مرات ومرات وأكثرت «التراحيب» به وامتدحت سيرته التي لا أعرف عنها شيئا من «عندياتي»، ثم أخذ يحلف بالطلاق أن أنضم إليهم وأشاركهم الغداء، وقد ابتهجت كثيرا بهذه الدعوة التي جاءت في وقتها بالتمام والكمال، وبعد أن تبادلنا النكات من «كعب الدست» أو من «الزنار وتحت» حسب التعبير الفلسطيني، وتناولنا معها الغداء و«عينّا خير»، نهضنا ليوصلني بسيارته الـ«دودج» التي تحمل لوحة كويتية، فشكوت له سوء الحال المادي فقال لي «ول يا زلمة افتح الدرج اللي عندك وخوذ قد ما بدك فلوس!».