الشرق الأوسط يذهب إلى بلير المخادع

نشر في 30-06-2007
آخر تحديث 30-06-2007 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد

ماذا كانت مكافأة بلير على دوره الذليل مع جورج بوش في غزو العراق واحتلاله؟ كان من المعتقد أنه سيصبح الأمين العام للأمم المتحدة أو أية منظمة دولية كبيرة أخرى مما تسيطر عليه الولايات المتحدة. لم يحدث. وأهانه صديقه أو سيده، كما يرون في بريطانيا، بتعيينه في «منصب بائس..أو بالأحرى يائس»، وهو المبعوث الخاص للرباعية الدولية في الشرق الأوسط

«بلير... إن مؤخرتي أشرف منه!». هكذا علق أحد المدونين على رحيل توني بلير من «10 داوننغ ستريت» مقر رئاسة الحكومة البريطانية، والتي سارع رفيقه ونائبه وزير الخزانة السابق غوردن براون إلى احتلالها بعد تولية إليزابيث الثانية إياه كرئيس وزراء جديد.

أتوقع أن يصفه أحدنا في المنطقة التعسة المعروفة في الغرب باسم «الشرق الأوسط» بهذا الكلام القبيح بعد الدور الذليل الذى لعبه الرجل في احتلال العراق خدمة لجورج بوش. الحقيقة أنه مدون من بريطانيا، بل ومن دائرة غلاوستر الانتخابية التى أوصلت توني بلير إلى رئاسة الحكومة.

ولأنه من بريطانيا، ليس غريباً. فالوصف يبدو شائعاً في صفوف المثقفين العماليين الذين يملؤون شمال بريطانيا الفقير الذي تنتشر فيه نقابات عمال المناجم الذين هزمتهم السيدة مارغريت تاتشر وتوجت زعامتها بسحق إضراباتهم. كانوا «أصحاب ثأر» وانتظروا طويلاً بطل عمال من طراز جون سميث الذي طبق السياسات الاشتراكية لحزب العمال بعد الحرب الثانية. وكانوا يظنون أن بلير سيكون رجلهم، ولكنه سريعاً ما صار كما يصفونه «رجل الأموال الدولية الكبيرة».

تصفيق حاد لبلير بعد خطبة الوداع

وبالمقارنة فإن التصفيق الحاد الذي ناله توني بلير عقب إلقاء خطاب الوداع في «بيت العامة» (أو البرلمان البريطاني، كما يشير اسمه حرفياً) يطبع في مخيلتنا نظرة أخرى تماماً للرجل.. بكل أسف لم يعد لأي شيء أو لأي رجل وجه واحد في عالم اليوم، ونسألكم بالمناسبة: هل كان الأمر غير ذلك في الماضي؟

على أي حال حصل توني بلير أمس الأول على تصفيق واقف (وهو وصف غربي لأكثر أعمال التقدير حرارة، أما نحن -الشرقيين- فليس من عادتنا الوقوف على أي حال.. لأنه ليس لدينا «حيل» أو لأننا نميل للاحتفاظ في قلوبنا بالحب للأشخاص الذين نقدرهم.. لا يستبعد ذلك الوقوف الدائم لأشقياء الموالاة الدائمة لأصحاب السلطان وتصفيقهم بمناسبة وغير مناسبة وهم واقفون). بعد إلقاء خطاب الوداع، ترك الرجل بيت الحكومة وصار رجلاً عادياً، وهو أمر لا يحدث، للأسف، في بلادنا العربية، حيث يذهب الرجل الأول إما إلى القبر بعد استعراض جنائزي عسكري أو بعد المرور بالسجون أو بالسحل في الشوارع، كما حدث لعبد الكريم قاسم. إن شئتم تفسيراً للتصفيق الواقف في بيت العامة البريطاني، والذي شارك فيه خصومه المحافظون: فهو أن توني بلير مكّن الاقتصاد البريطاني من الازدهار والتحول لأكثر اقتصادات أوروبا حيوية ونمواً.

جانب من هذا النجاح الخارق في الداخل البريطاني يعود إلى مهاراته الأولية كعازف في فرق موسيقى الروك التى كانت تقلد الخنافس في الحانات البريطانية في ستينيات القرن الماضي. فقد تعين عليه أن يبتسم كثيراً وان يداعب كل شخص للحصول على لقمة عيشه. لقد ولد فقيراً ووحيداً... وقد صنع هذا الفقير لله، باعترافه، ما صار أقوى اقتصاد في أوروبا بعد أن كان يبدو كاقتصاد أوروبا المريض.

بعد أن ترك العزف في الحانات واحترف السياسة، عرف بسياسيته الميكيافيللية التى جعلته يغير موقفه أحياناً في اليوم نفسه مرات عدة (وهذه هي أيضاً سياسات الطقس التى يعرفها أى شخص يزور لندن ولو يوما واحدا). جاءته تصاريف القدر بلقاءات تمت بالصدفة مع مجموعات من المثقفين والسياسيين البريطانيين الذين كانوا يبحثون عن صيغة لإنقاذ حزب العمال من التراجع القاتل بعدما طرحته أرضاً وكادت تدمره السيدة مارغريت تاتشر بسلسلة من الانتصارات الانتخابية، لمصلحة ثورة مضادة قادتها السيدة من داخل حزب المحافظين أولاً، ثم في بريطانيا ككل بعد ذلك (هذا هو ما فعله أيضا عندنا الرئيس الراحل أنور السادات في الحقبة نفسها تقريباً).

إرث بلير البناء: تحديث بريطانيا وعودتها للاستعمار

كان السؤال الكبير هو كيف يمكن إنقاذ حزب العمال من الانسحاق والهامشية التامة التى صار عليها في عقدي السبعينيات والثمانينيات. أجابت بعض هذه المجموعات بصورة حاسمة جداً: المجتمع البريطانى لايزال ثائراً على النقابات العمالية وأصبح على أي حال مجتمع طبقة وسطى... والحل هو «تحديث الحزب» وتحويله الى «حزب للطبقة الوسطى» بعد أن كان حزب العمال، ومن ثم المنافسة مع المحافظين في نفس إطار السياسات. لم يكن من الممكن أن ينجح بسياسات مارغريت تاتشر وحدها لأن البريطانيين كانوا قد «زهقوا» من تمكن السيدة الحديدية من إزهاق روح التعليم والصحة والبحوث والتكنولوجيا والفنون والآداب والجامعات في بريطانيا.

وجدت هذه المجموعات في لاعب موسيقى الروك السابق ضالتها فراهنت عليه ليكون «البديل العصري» لرجال العمل العظام. وعندما سنحت له الفرصة للقاء بعض المثقفين والمفكرين البريطانيين الكبار من وزن أنتونى غيدنز نصحوه بأن يركز أيضا على هذه القضايا الجوهرية.

نجح في إحياء بريطانيا من الداخل، ولكنه لوث سمعتها في الخارج بعد مشاركته في سياسات الكذب والعدوان المتغطرس في العراق. ولأن هذا المشروع الاستعماري هزم بفضيحة «بجلاجل» اضطر لترك «داوننج ستريت» بدون ابتسامة هذه المرة.

هل ينجح بلير في الشرق الأوسط؟

ماذا كانت مكافأته على دوره الذليل مع جورج بوش في غزو العراق واحتلاله؟ كان من المعتقد أنه سيصبح الأمين العام للأمم المتحدة أو أية منظمة دولية كبيرة أخرى مما تسيطر عليه الولايات المتحدة. لم يحدث. وأهانه صديقه أو سيده، كما يرون في بريطانيا، بتعيينه في «منصب بائس..أو بالأحرى يائس»، وهو المبعوث الخاص للرباعية الدولية في الشرق الأوسط... وأضاف الروس إهانة أخرى بأن اعترضوا لساعات على هذا التعيين.

هل تساعده هذه الخلفية على أن يصنع شيئا في الشرق الأوسط أم تعيقه؟

السياسات العملية شيء آخر. ليست لتوني بلير صورة جيدة في المنطقة تساعده على القيام بهذه المهمة التى تحتاج إلى فدائي، خصوصا بعد أن وضع دوسوتو المبعوث السابق تقريره النهائي. الذي أدان فيه «هيمنة الولايات المتحدة على الرباعية» ومنعها أبسط المساعدات الإنسانية عن الشعب الفلسطيني.

ومع ذلك فلا أظن أن السيد بلير سيجد مقاومة من الطرف العربي في معادلة الصراع والتسوية مع إسرائيل لسببين: الأول أنه رجل له ثقل عالمي، والثاني أكثر وضوحاً، وهو «أن النظام العربي كله راكع على ركبتيه» يشحذ حلاً ما لمأساة شعب فلسطين!

العائق الحقيقى أمام مهمته.. العائق الذى قد يجعلها مستحيلة.. هو الولايات المتحدة وإسرائيل؛ فالرباعية ومن ورائها إسرائيل وأميركا لم يمنحاه تفويضاً محدداً ولا سلطات مستقلة ذات قيمة. وهو سيضطر للعودة للرباعية.. ومن ثم لإسرائيل وأميركا في كل خطوة يخطوها، مهما كانت تافهة. فإسرائيل لا «تهذر» في ما يتعلق بمصالحها الاستعمارية، وأميركا ليس لديها مزاج لإحداث أي اختراق في المنطقة بعد هزيمتها في العراق، وليس لدى بوش ما يعطيه للمنطقة سوى مزيد من الدمار.

وأهم من ذلك كله أنه سيكون مقيداً بخطة تعسة تسمى «خريطة الطريق»، وهذه الخطة التعسة ستكون، على الأرجح، طريقه للعودة إلى الغناء في الحانات... وقد يكسب عامة البريطانيين من جديد ابتسامة عريضة لقاء «فلوسهم» في هذه المواقع التاريخية المهمة!

 

كاتب مصري

back to top