مشكلتنا أننا نظن أنّ هذا العالم مُلكنا وحدنا فقط، نستطيع أن نفعل به ما نشاء، ونحكمه كما نشاء، ونديره كما نشاء، ونتصرّف به كما نشاء، من دون ضوابط خارجية، أو اعتراضات أجنبية، ثم نعود بعد أن نفشل، وتنزل بنا الكوارث، إلى الاستنجاد بالعالم، وطلب المساعدة، والمعونة، والغيث.- 1 -
سألني سائل: ما مشكلة العرب الحاليين الحقيقية، ولماذا يصابون بهذه الخيبات المتلاحقة؟ والجواب عن ذلك يطول جداً، بل إن هذا السؤال من الأسئلة السهلة المتداولة، ولكن الإجابة عنه كانت الشغل الشاغل، لأجيال من التنويريين، منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى الآن.
سوف أقترب قليلاً من الحقيقة الماثلة أمامنا الآن، لكي نستطيع أن نفهم تماماً أين نقف، ولماذا نقف، وما رد فعل الآخر على وقفتنا تلك؟
- 2 -
مشكلتنا الكبرى، أننا مازلنا نعتقد أننا نعيش وحدنا على كوكب الأرض، وأنه لا شركاء لنا في هذا الكوكب الذي أصبح عبارة عن قرية كونية، وأن قراراتنا تهمنا وحدنا، ومشاكلنا خاصة بنا، رغم أننا نطلب العون من الآخر، ونستنجد بالآخر في كل مشكلة كبيرة أو صغيرة نتعرّض إليها، وهمومنا منّا وفينا ولنا فقط، وأننا ضد التدخل في شؤوننا الداخلية، رغم أننا نطلب من الآخر الحماية العسكرية، والغذاء، والدواء، والعلم، والتعليم، وهي كلها شؤون داخلية. وحكاية «التدخل في الشؤون الداخلية» هذه من اختراع بعض الأنظمة التي تعني بها صراحةً، ألّا يعترض الآخر طريقها، ولا يحاسبها على ظلمها، واستبدادها لشعبها، وفسادها ونهبها للمال العام، فهذا ما اتُفقَ على أنه «تدخل في شؤوننا الداخلية»، أما طلب المعونة والمساعدة والنجدة في مناسبات مختلفة، فلا يعتبر تدخلاً في شؤوننا الداخلية.
- 3 -
مشكلتنا كما قلنا، أننا نظن أنّ هذا العالم مُلكنا وحدنا فقط، نستطيع أن نفعل به ما نشاء، ونحكمه كما نشاء، ونديره كما نشاء، ونتصرّف به كما نشاء، من دون ضوابط خارجية، أو اعتراضات أجنبية، ثم نعود بعد أن نفشل، وتنزل بنا الكوارث، إلى الاستنجاد بالعالم، وطلب المساعدة، والمعونة، والغيث.
منطق العالم الآن الذي نتغافل عنه، ونسعى إلى عدم فهمه أو احترامه، يقول: لانظام سياسياً دينياً يمكن أن يحكم ويسود في هذا العالم العَلْماني، بعد أن تعلْمَن العالم، وأصبح كذلك في طريقه إلى العولمة. وإذا أراد العرب والمسلمون إقامة دولة دينية «خلافة إسلامية أو دولة مسيحية تعيد للكنيسة سلطانها، أو خلاف ذلك» فمكان ذلك ليس كوكب الأرض، ولكن في كوكب آخر عليهم أن يبحثوا عنه. فلقد خُتمت الأرض بخاتم العَلْمانية، وها هو يجري ختمها الآن بخاتم العولمة، والصائحون الخائفون من العَلْمانية والعولمة ما هم غير الفئران الهاربة من السفينة، ظناً منهم أنها تغرق بهذين الحملين الشريرين.
فلانظام سياسياً يقوم في أي ركن من أركان العالم الآن، يكون مدمراً أو مهدداً بالدمار لأي كيان سياسي آخر، ولانظام سياسياً يقوم ويصمد إلى أمد بعيد، في أي ركن من أركان العالم الآن، يفرض على شعبه نظاماً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً مخالفاً للأنظمة المعمول بها والمعترف بها، في كل أنحاء العالم، ولانظام سياسياً في أي ركن من أركان العالم الآن، يمكن أن يقوم على أساس ديني، حيث قرر العالم -وليست فئة قليلة منه- فصل الدين عن الدولة، وعدم تدخّل رجال الدين في السياسة، ذلك أن العالم كله أصبح عالماً مدنياً تحكمه أنظمة مدنية.
لذا فعندما وصل العَلْمانيون اليهود بقيادة بن غوريون إلى الحكم، وطالبوا بإقامة دولة يهودية عَلْمانية وقف العالم إلى جانبهم، ووقف العالم ضد الفلسطينيين الذين كانوا يسعون إلى إقامة دولة دينية بقيادة الحاج أمين الحسيني «حليف هتلر والنازية» وبتوجيه من الإخوان المسلمين الذين كانوا يحاربون في فلسطين حرباً دينية من أجل إقامة دولة دينية.
وعندما وصلت «حماس» إلى الحكم، في غفلة من العالم، وشكّلت حكومتها الدينية، ونشرت شعاراتها الدينية، وطالبت بحقوق الفلسطينيين من منطلق ديني وليس من منطلق سياسي واقعي، حيث سبق وردد الراحل الشيخ أحمد ياسين مؤسس «حماس» دعوة زوال إسرائيل عام 2022 باعتبارها نبوءة قرآنية، أخذت مجموعات كبيرة من قادة «حماس» تعتقد بذلك. لذا، فهم يرفضون التفاوض مع إسرائيل بانتظار زوالها. كما كتب الكاتب الإسلامي «الحمساوي» باسم جرّار في 1993 كتاباً بعنوان «زوال إسرائيل 2022، نبوءة أم صدفة رقمية» ولقي الكتاب قبولاً واسعاً لدى أوساط فكرية وشعبية، إضافة إلى ما أشاعه من أمل وتفاؤل في الشارع الفلسطيني والعربي. وبهذه الصبغة الدينية لمنهج «حماس» السياسي الذي يرفض التفاوض مع إسرائيل وتحرير فلسطين من البحر إلى النهر بقوة الكفاح المسلح، وقف العالم كله ضد «حماس» بمن فيهم أغلبية العرب والمسلمين، وحرمهم من عطاياه. في حين سيغدق العالم العَلْماني -كما قرر في الأمس- على العَلْمانيين الفلسطينيين أكثر من سبعة مليارات دولار خلال ثلاث سنوات. وهو مبلغ أكثر من خمسة مليارات دولار الذي طلبه الفلسطينيون العَلْمانيون، وكل هذا لكي يقول العالم للفلسطينيين إنه ليس ضد دولة فلسطينية عَلْمانية على غرار الدولة العَلْمانية اليهودية، ولكنه ضد دولة فلسطينية دينية إسلامية كانت، أم مسيحية، أم يهودية.
من هنا فإن «فتح» لم تكن وحدها ضد الحكم الديني «الحمساوي». ولم تكن هي التي قطعت عنها المساعدات المالية السنوية السخية، ولم تكن إسرائيل وحدها ضد الحكم الديني «الحمساوي»، ولم تكن هي وحدها التي قطعت الحبل السُري مع الحكومة الدينية «الحمساوية»، بل اشترك معها العالم الآخر كله.
ولم تكن الدول العربية المحافظة وغير المحافظة هي التي قطعت مساعداتها المالية ودعمها السياسي لحكومة «حماس» الدينية، ولكنه العالم بأجمعه ما عدا بعض الأنظمة الشيوعية في العالم ككوبا وكوريا الشمالية وفنزويلا، وبعض الدول الدينية التي تحاول السيطرة على الخليج باسم الدين، وببأس القنبلة النووية المنتظرة.
كذلك، فإن الحكومة المصرية، ليست وحدها التي تمانع في إعطاء جماعة الإخوان المسلمين في مصر رخصة حزب سياسي رسمي، فتلك هي إرادة المجتمع الدولي، وقراره، والقوى المؤثرة فيه وليست الحكومة المصرية وحدها.
أيضاً، فإن العَلْمانيين الليبراليين في العالم العربي ليسوا وحدهم الذين يعارضون دعوة الإخوان المسلمين في إعادة إقامة الخلافة الإسلامية، وعدم تولي المرأة، وغير المسلم رئاسة الدولة، واعتبار غير المسلم من الذميين الذين لا يجوز لهم الانخراط في الجيش، كما سبق أن قال داعية الدولة الدينية مصطفى مشهور، المرشد الخامس لجماعة الإخوان المسلمين.
* كاتب أردني