أَكَلَة الجبنة والنصيحة الفاسدة
الحديث عن الرئيس التوافقي المرتقب ميشال سليمان يدفعني إلى توجيه بعض اللوم إليه، فهو لم يتصرف على مستوى التوافق الذي حصل عليه قبل أن يقطع المسافة بين اليرزة (قيادة الجيش) وبعبدا (قصر الرئاسة)، بل سارع إلى مغازلة أكَلَة الجبنة من الفريقين عبر زيارات شخصية قام بها يميناً ويساراً، وكأنه بذلك يعترف مسبقاً بحقوق قواعدهم في أكل الجبنة.
في العام 1962، وبعد انقضاء نحو 4 سنوات من ولايته كرئيس للجمهورية، قدم فؤاد شهاب استقالته بشكل غير متوقع فاجأ جميع السياسيين من معارضين وموالين لحكمه، وبعد إذاعة خبر الاستقالة بساعة واحدة، وبحركة عفوية غير منظمة، تقاطرت وفود المجلس النيابي برمته، بالإضافة إلى وفود السياسيين من غير النواب، إلى منزله المتواضع في جونيه حيث اختلط المعارض بالموالي في مناشدة الرئيس، قائد الجيش السابق بالعودة عن استقالته.أرشيف الصحافة اللبنانية في تلك الفترة مازال يحتوي على صورة تاريخية لأحداث هذا اليوم، فؤاد شهاب محمولاً على أكتاف معارضيه ومواليه، في مظاهرة داخل صالون بيته الصغير، اشترك فيها أشد المعارضين له ريمون إده وبيار الجميل وغيرهما. سبب الاستقالة المفاجئة كما، أعلن في حينه، أن فؤاد شهاب قطع الأمل من التعامل مع السياسيين الموالين والمعارضين الذين دأبوا على وضع العصي في دواليب مشروعه الكبير لإنشاء دولة المؤسسات والمساواة، ونقل البلاد من منطق المزرعة إلى رحاب القانون الذي يجب أن يسري على الجميع من دون استثناء. وفي تبرير استقالته قال فؤاد شهاب إنه فشل في التعايش مع من أسماهم في ذلك الوقت «Fromagiste» أي أكَلَة الجبنة، وأنه يعترف بالهزيمة أمامهم، ولذلك فهو يفضل أن يعيش ما تبقى من أيامه، مع زوجته الفرنسية الأصل، بعيداً عن الجبنة ومن يأكلونها، ولم يرجع فؤاد شهاب عن استقالته إلا بعد أن أخذ وعداً من الحاضرين بالكف عن «أكل الجبنة» طيلة السنتين المقبلتين، وهي فترة ما تبقى من ولايته الدستورية. وهكذا دخل تعبير «أكلة الجبنة» القاموس السياسي اللبناني وهو تعبير مجازي يشير إلى عقد الصفقات ونهب المال العام. لكن «العادة عبادة»، كما يقول المثل اللبناني الشائع، وأكل الجبنة هي عادة تأصلت في نفوس السياسيين على مدى الحكم التركي ومن بعده الانتداب الفرنسي، أي طيلة 500 سنة ونيف من عمر البلاد.غير أن فؤاد شهاب، بحركته الاستقالية تلك أراد أن يستغل فترة السنتين المتبقيتين من ولايته في منع استيراد الجبنة أو صنعها محلياً، عن طريق مراقبة تنفيذ المشاريع ووضع ضوابط للفساد. لكن أكَلَة الجبنة كانوا أقوى منه، فسرعان ما رجعوا إلى عادتهم القديمة، ولم يفلح فؤاد شهاب في إقامة الدولة العصرية بالكامل، لكنه نجح في وضع أسسها التي تغيرت في ما بعد، حيث عادت «حليمة إلى عادتها القديمة». وعندما أيقن فؤاد شهاب استحالة الإصلاح كانت مدة ولايته قد انتهت. وأصر النواب على التجديد له بأكثرية شبه مطلقة، وبدوره أصر شهاب على الرفض. وفي لقاء ضمه مع رئيس الحكومة آنذاك رشيد كرامي ورئيس مجلس النواب صبري حمادة وعدد من نواب الكتلة الشهابية جاءوا لإقناعه بقبول تعديل الدستور والتجديد لولايته ست سنوات أخرى، قال شهاب بلهجة القائد العسكري ما معناه: أنا عسكري تعلمت أن أعترف بالهزيمة كما أعترف بالنصر. ولقد هزمني أكَلَة الجبنة، وسيهزمونني مرة ثانية والعسكري يجب أن يتنحى عند حدوث الهزيمة الأولى، ولن أعود عن موقفي هذا إلا إذا منحني الشعب تفويضاً كاملاً بأن أضع كل من «يأكل» في السجن ومن دون محاكمة، وهذا أمر صعب عليكم وعليّ، لذلك أطلب أن تتركوني وتختاروا من يستطيع أن يتعايش مع هذا الوضع. وكان شارل حلو بديل فؤاد شهاب الذي اختاره بنفسه ضد ابن عمه النائب الأمير عبدالعزيز شهاب، وعندما سئل في جلسة خاصة كيف يفضّل «الغريب» على ابن عمه قال ما معناه: عبد العزيز شغوف بالجبنة على مختلف أنواعها، أما شارل حلو فلديه حساسية ضد رائحتها.للتذكير، فإن فؤاد شهاب كان قائداً للجيش قبل أن يصل إلى الرئاسة عقب الأحداث الدامية في العام 1958، وقد تم انتخابه رئيساً بصورة شبه إجماعية نتيجة توافق سوري–أميركي. اقترح اسمه الرئيس آيزنهاور، ووافق عليه عبدالناصر الذي كان وقتها رئيساً للوحدة المصرية السورية. وهذا يثبت النظرية القائلة بوجود ناخبين اثنين: دولي وإقليمي. واحد يقترح والآخر يوافق، وفي حال فقدان توازن هذه المعادلة يأتي الفراغ وما يجره من مشاكل، تماماً كما يحدث الآن.والشيء بالشيء يذكر، فقائد الجيش إميل لحود جاء إلى سدة الرئاسة في العام 1998 نتيجة لهذه المعادلة، لكنه اصطدم بأكَلَة الجبنة في السنة الثانية من ولايته الأولى، ومما زاد الأمر صعوبة حصول توافق وتفاهم بين الأكلة من السوريين الحاكمين في لبنان، وبين أقرانهم اللبنانيين، وهناك من يقول إن قسمة الجبنة بين الفريقين بلغت 75 في المئة للسوريين و25 في المئة للبنانيين، ثم تراجعت إلى 60 و40، المهم أن إميل لحود أدار هذه القسمة، تحت ضغط سوري، من دون أن يشارك بها، بعد أن ألقى السلاح أمام هؤلاء نتيجة عجز، ومما ساعد الوضع السيئ على الاستمرار، بل تقويته، اتفاق الطائف الذي جعل رئاسة الجمهورية من دون أنياب.واليوم يطل قائد جديد للجيش، هو ميشال سليمان، ليتبوأ مركز رئاسة من دون أنياب في بعبدا، وتحت شعار كاذب هو «عدم التدخل بالشؤون اللبنانية الداخلية» لم تبق دولة واحدة في العالم خارج إطار التدخل، مما زاد في تعقيد الأزمة... فكلما حُلـّتْ عقدة توالدت مجموعة عقد أخرى مستحيلة الحل، وذلك لأن التفاهم بين الناخب الإقليمي (سورية يضاف إليها اليوم إيران والناخب الدولي الولايات المتحدة) لم يحصل بعد. وكل ما يقال عن رئيس «صنع في لبنان» أو «دولة الاستقلال والسيادة والحرية» إلى آخر هذه المعزوفة، هو كلام هراء، فارغ المضمون، ولا يمت إلى الحقيقة بصلة.والحديث عن الرئيس التوافقي المرتقب ميشال سليمان يدفعني إلى توجيه بعض اللوم إليه، فهو لم يتصرف على مستوى التوافق الذي حصل عليه قبل أن يقطع المسافة بين اليرزة (قيادة الجيش) وبعبدا (قصر الرئاسة)، بل سارع إلى مغازلة أكَلَة الجبنة من الفريقين عبر زيارات شخصية قام بها يميناً ويساراً، وكأنه بذلك يعترف مسبقاً بحقوق قواعدهم في أكل الجبنة... تلك القواعد التي هي، في الحقيقة والواقع، أصل الداء في منع قيامة لبنان كدولة مؤسسات وقانون. وهذا الأمر، في اعتبار مريدي العماد سليمان وخصومه على السواء، خطأ غير قاتل ارتكبه في بداية مسيرته إلى الحكم، وكان الأجدر به أن يبقى في مكانه باليرزة إلى حين إتمام فصول سيناريو انتخابه، وأن يأتي أكَلَة الجبنة إليه، لا أن يذهب إليهم، وبالتالي أن يحافظ على هيبته كقائد للجيش أولاً، وكمرشح توافقي ثانياً، لأن الهيبة تشكل نصف النجاح في الحكم وخارجه، ويذهب المنتقدون إلى أبعد من ذلك حيث يتفقون على القول إن هذا الخطأ غير المميت يدل على سذاجة القائد اللواء في فهمه لأصول وقواعد لعبة الحكم في لبنان، ويعطي انطباعاً باحتمال أن يصبح ألعوبة بين أيدي السياسيين أكَلَة الجبنة.إن هذا الخطأ لا يتحمل مسؤوليته العماد المرشح التوافقي، فهو عسكري القلب والقالب، ولم تكن له علاقة بالسياسة والسياسيين لا من قريب ولا من بعيد، المسؤول عن هذا الخطأ المستشار أو المستشارون الذين أعطوه هذه النصيحة، لذلك عليه أن يسارع إلى طردهم، إذا كانوا عسكريين، أو إبعادهم إذا كانوا مدنيين، قبل أن يغرقوه بنصائحهم الفاسدة. * كاتب لبناني