لم يبق إلا الاعتذار!

نشر في 14-02-2008 | 00:00
آخر تحديث 14-02-2008 | 00:00
 أ.د. غانم النجار

إن الاعتذار عن الخطأ حتى على المستوى الشخصي فيه نوع من تطهير الذات، والاستقرار النفسي، وتخفيف التوتر والقلق، والاعتذار يساعد على تعزيز وتقوية مقومات الصحة النفسية، فحالما يدرك الإنسان أنه أخطأ فعليه ألا يتردد في الاعتذار، فللاعتذار الصادق وقع السحر.

كم من البشر يدخل التاريخ من خلال الاعتذار؟ وكم من البشر في المقابل يصبح شخصية تاريخية بسبب صلفه وغروره وعناده وعدوانه على الآخرين؟ الإجابة بالتأكيد معروفة ولا تحتاج إلى أدلة، فالذين يعتذرون للآخرين عن أخطائهم أو أخطاء من سبقهم تجاه المآسي التي ارتكبوها بحق الفقراء والضعفاء والمهمشين في العالم، لاشك أنهم قلة، ولعل هذا من أسباب الاضطراب والقلق والتوتر بين البشر.

يوم أمس الأول كان موعداً لحدث تاريخي عسى أن ينجح في التحول إلى رمز تختزنه ذاكرة العالم، ليصبح عادة وقاعدة، فللاعتذار فعل السحر، فقد قدّم رئيس الوزراء الأسترالي الجديد كيفن رود اعتذاراً لسكان أستراليا الأصليين على السياسات العنصرية التي مارسها المستوطنون البيض من خلال إجراءات وقوانين قاسية وتمييزية كان أبرزها إصدار وتنفيذ قوانين تجعل من خطف أطفال السكان الأصليين وفصلهم عن أهليهم عملاً مشروعاً، ففي الفترة الواقعة ما بين 1910 و1970 قامت الحكومة الأسترالية باقتلاع قرابة الـ%30 من أطفال السكان الأصليين بحجة تحسين أوضاعهم، وإدماجهم في المجتمع، والارتقاء بهم.

وبغض النظر عن عدم تضمين الاعتذار تعويضات فإنه يأتي بعد استمرار رئيس الوزراء اليميني السابق في رفض الاعتذار على مدى السنوات العشر الماضية بعد كشف فضيحة النهج العنصري، وبالتالي ليدخل كيفن رود رئيس الوزراء الحالي التاريخ من خلال اعتذاره، حيث يقول في كلمته القصيرة: «إننا في البرلمان الأسترالي نناشدكم أن تقبلوا اعتذارنا بالطريقة نفسها التي تم تقديمه بها كجزء من تضميد جراحات الوطن»، وقد ذكر كلمة «آسفون» في كلمته القصيرة التي تتجاوز 200 كلمة أكثر من 15 مرة.

وعلى أي حال ليس هذه هي حالة الاعتذار الأولى في المجتمعات البشرية، فهناك كم متزايد بين الشعوب من الاعتذارات والمطالبات بالاعتذار، وإن كانت في أغلبها تتم بين دولة اعتدت على دولة أخرى، أو من خلال تحولات سياسية تصبح فيها الفئة المعتدى عليها أو المظلومة قد أصبحت ذات قوة سياسية، إلا أنها هذه المرة تأتي في إطار إنساني يستحق التقدير والتحية، فلا حاجة سياسية لذلك الاعتذار، فالسكان الأصليون لأستراليا هم الأضعف من بين مكونات الشعب الأسترالي، وعلينا ألا نقلل من أثر ذلك الاعتذار على الضحايا حتى في بعدها الرمزي، وتعزيز الوعي بالقيم الإنسانية، والمساواة في الكرامة الإنسانية، والأهم من هذا وذاك هو الالتزام بعدم تكرار القيام بالإجراءات العنصرية، والعدوان على فئات المجتمع المهمشة، وقبول الآخر من دون تمييز على أي أساس كان، على أساس اللون أو الدين أو اللغة أو الجنس.

فالتمييز حتى إن ظهر على السطح وكأنه حماية للمجتمع، إنما يقوم بنخر المجتمع والتأسيس لعدم استقراره. وليس الاعتذار إلا بداية لطريق طويل، ولكنها بداية تختصر الطريق بالتأكيد.

إن الاعتذار عن الخطأ حتى على المستوى الشخصي فيه نوع من تطهير الذات، والاستقرار النفسي، وتخفيف للتوتر والقلق، والاعتذار يساعد على تعزيز وتقوية مقومات الصحة النفسية، فحالما يدرك الإنسان أنه أخطأ فعليه ألا يتردد في الاعتذار، فللاعتذار الصادق وقع السحر، وهو خصلة حميدة لاشك يقابلها خصلة التسامح.

ويبقى السؤال هنا، كم من الاعتذارات الواجب تقديمها من حكامنا إلى شعوبهم، وكم من الاعتذارات يجب تقديمها على مستويات أقل من الحكام لسياسيين مارسوا التضليل والتدليس، ودفعوا الناس في مواجهات أكلت الأخضر واليابس، ومازالوا يمارسون نفس التضليل ونفس الخداع ونفس التدمير... لهؤلاء ولغيرهم نقول.. اعتذروا... تصحّوا.

back to top