فيما مرت أمم عدة، على مر التاريخ، بنوائب ونكبات قاسية، فإن طريق الخلاص عادة ما يكون الشغل الشاغل لتلك المجتمعات، ولعل تجارب الصين والهند التي نكبت باحتلالات ومعارك وأزمات طاحنة، لهي خير دليل على أن معطيات التاريخ تتيح لنا الحكمة والتجربة.

بدلا من انتظار العرب لحظة تاريخية فارقة يستعيدون فيها مجدهم الضائع وحضاراتهم العظيمة التي أهدت الدنيا عطايا مادية لا تنسى، ونفحات روحية لا تزال متوهجة ، عليهم أن يعملوا بجد واجتهاد في سبيل تحسين أوضاعهم الراهنة بالقدر الذي يسمح لنظامهم الإقليمي بالبقاء على قيد الحياة، أو على أقل تقدير الحيلولة دون تدهور أوضاعهم إلى الحد الذي يخرجهم تماما من «زمام التاريخ» أو يؤدي إلى «إعلان وفاتهم».

Ad

وتهدي معطيات التاريخ إلينا حكمة عميقة ناصعة عن أمم لم تقعدها، الهزائم الكبرى عن محاولة كسب النزال المحدود والاشتباك المحدد مع وقائع حياتية جانبية، نراها صغيرة وهي من عظائم الأمور، حتى خرجت من ضيق إخفاقها إلى براح الإنجازات العريضة، التي دفعتها إلى مقدمة الصفوف، بعد أن كانت قبل عقود في عداد الأمم المغيبة عن التدفق الرئيسي لحركة العلاقات الدولية.

فالصين ما ظن أحد أنها ستفيق من حرب الأفيون، وتسترد وعيها، وتطلق طاقتها في اتجاه المزاوجة بين ما في القيم الكنفوشيوسية من جوانب أخلاقية إيجابية وما في ثورتها الحمراء من اتجاه صارم وقوي إلى تهيئة المجتمع لحياة عملية، ثم تقرر، بعد الدخول في جدل عميق حول الملامح النهائية للأيديولوجيا وحدود التفاعل المرن مع العالم، أن تخط لنفسها بثقة طريقا مستقيمة، حققت لها وجودا اقتصاديا، ومن ثم ثقافيا وسياسيا، في كل مكان على سطح الأرض. فالصين لم تشأ أن تستمر في مناطحة واشنطن وموسكو في عالم التسلح الرهيب، بل امتلكت فقط ما يكفي للدفاع عن سيادتها الوطنية، ولم تجار القطبين الكبيرين إبان الحرب الباردة في بلوغ أجواز الفضاء الرحيب، بل قررت أن تبدأ من مجال هامشي ضئيل في عالم المال والقوة، لكنه بالغ التأثير في دنيا الحضور الثقافي والرمزي، ثم الاقتصادي فيما بعد، وهو صناعة «لعب الأطفال»، التي لم تلبث أن اتسعت لتطوق مجالات صناعية تلبي الاحتياجات اليومية البسيطة للفرد والأسرة في أرجاء العالم كافة، من ملبس وأدوات كتابية وزينة وهدايا ...الخ.

أما الهند، التي اختارت العصيان المدني طريقا للمقاومة في أداء عبقري قاده المهاتما غاندي، فإن توصلها إلى السلاح النووي لردع غريمتها التاريخية باكستان لم يدفعها إلى التلويح بهذه «القوة الخشنة» طريقا لحيازة مكانة دولية، بل التفتت إلى إدارة معركة صغيرة كان انتصارها فيها مظفرا، بكل المقاييس، إلى درجة أن الدولة التي كانت تحتلها وهي بريطانيا، باتت في حاجة ماسة إلى الاستفادة من مظاهر هذا النجاح الهندي.

والمعركة التي اختارتها الهند بدأت بالسينما والموسيقى ووصلت الآن إلى عالم الاتصالات والبرمجيات. فإذا كانت الموسيقى الهندية قد اكتسبت شهرة عالمية بتفردها وسحرها وعذوبتها وخصوصيتها، فإن سينما الهند خطت طريقها باقتدار، وفرضت أسواقها، ونافست السينما الأميركية في آسيا وأفريقيا، وباتت تشكل مصدرا مهما من روافد الدخل القومي للبلاد، في وقت يزيد فيه الطلب يوميا على مهندسي ومبرمجي الكومبيوتر الهنود للعمل في أرفع المؤسسات الاقتصادية والعلمية الأوروبية.

على النقيض من ذلك، يقع الخطاب السياسي والثقافي العربي، على اختلاف المناهل الفكرية والأيديولوجية التي ينبع منها، في فخ «الينبغيات» العريضة ، فهو يطالب بمشروع نهضة كاملة وتمكن واسع ينتج مكانة وقوة دولية بارزة، دفعة واحدة، وفي سرعة فائقة. وهذا الطرح لا يعبر عن طموح بقدر ما يشي بتجاهل حركة الواقع وسنن التاريخ، وجهل في قراءة الإمكانات الراهنة للعرب، فتكون نتيجته إما الاستسلام للبقاء في الظل واستمراء الضعف والهوان بعد تكرار الفشل في تحقيق نجاح كاسح دفعة واحدة، أو الميل إلى التفسير التآمري لكل شيء، وكأن العالم لا شغل له سوى الكيد لنا.

كاتب وباحث مصري