لا حل أمام العرب تجاه صدمة الحداثة إلا «الليبرالية» المنسجمة مع ثوابت الإسلام وإذا جاز لي فإني أسميها «الليبرالية الإسلامية» متمثّلة في العقلانية والفردية وحرية الفكر والحوار والتنافس السلمي وقبول الآخر، لا أرى حلاً آخر ينقلنا إلى بر «الحداثة» غيرها... فهل نفعل؟تشهد الساحة العربية أحداثاً عديدة تبدو في الظاهر أنها متفرقة لا رابط بينها ولكن بشيء من التأمّل يتضّح للمراقب والباحث أن هناك روابط مشتركة تجمعها، يلتقي هنا اليوم في الدوحة قادة دول مجلس التعاون في قمّتهم الثامنة والعشرين لبحث صيغ التعاون والتنسيق المشترك إزاء التحديّات الداخلية والخارجية التي تواجه المنظومة الخليجية، لاسيما في ما يتعلق بتداعيات المشروع النووي الإيراني على منطقة الخليج وأخطاره وتأثيرات الوضع الأمني الذي بدأ بالتحسن في العراق على الوضع الخليجي العام، إضافة إلى استكمال متطلبات السوق الخليجية المشتركة، والمفترض الإعلان عن قيامها في قمة الدوحة، وقد يستعرض نتائج الدراسة الأولية لمشروع الطاقة النووية للأغراض السلمية لدول المجلس وغيره من الملفات التقليدية المدرجة على جدول الأعمال.
ومنذ أيام انفضّ مؤتمر «أنابوليس» للسلام في الشرق الأوسط وشهد مشاركة عربية واسعة حضرتها السعودية لأول مرة، وكان إيذاناً مبشّراً بعودة القضية الفلسطينية إلى الطاولة بعد غياب طويل وحجب بسبب الأوضاع العراقية واللبنانية والتهديد النووي الإيراني.
كما حملت الأنباء أخيراً نبأ القبض على خلايا إرهابية في السعودية كانت تخطّط لاستهداف علماء دين ورجال أمن ومنشآت نفطية. ومن جانب آخر مازالت مشكلة البحث عن رئيس توافقي تشغل الأطياف السياسية والطوائف اللبنانية بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق وحصول الفراغ الرئاسي.
وفي الوقت الذي يشهد فيه الوضع العراقي تحسّناً بسبب «صحوة» العشائر ضد أعمال القاعدة وإجرامها الوحشي، إذ بلغ عدد الذين انضموا إلى وحدات «الصحوة» «77» ألف فرد من العرب السُّنّة تكفلوا بحفظ الأمن في مناطقهم، فإننا نستبشر خيراً بالمراجعات النقدية للمفاهيم الدينية «الجهاد» «الولاء والبراء» «الدولة الإسلامية» «العلاقة مع الغرب» تلك المراجعات الفكرية التي سميت «ترشيد الجهاد في مصر والعالم» وأحدثت ردود فعل واسعة في مصر وخارجها سواء بين قيادات الجماعات الجهادية داخل مصر وخارجها أو من قبل الجماعات الدينية الأخرى.
الآن ما الذي يجمع هذه الأحداث رغم تنوّعها واختلافها؟ إنه الجدل الصحي والحيوي بحثاً عن حلّ أو مخرج لتجاوز الوضع المأزوم السائد تطلّعاً لوضع أفضل، إنه يمثل نوعاً من مغالبة الإنسان العربي للظروف والأوضاع المحيطة أملاً في غدٍ أفضل، إنه تحريك للجمود المخيّم والخانق للحركة والتغيير، إنه استجابة نرجو أن تكون إيجابية للتحديات المحيطة: تحديات التنمية والتقدم في الداخل وتحديات العولمة والثورة المعرفية والتقنية في الخارج، إنه بعبارة مختصرة «صدمة الحداثة» من جديد بعد أن وصلت مشاريع النهضة والتنوير إلى أفق الانسداد التاريخي، تلك التي بشّر بها الرواد النهضويون قبل «150»عاماً، فهي الصدمة الحضارية الثانية.
لقد كانت الصدمة الحضارية الأولى في أعقاب الاحتكاك بالمستعمر الغربي في أواخر القرن الثامن عشر وما جلبه في رِكَابِه من مظاهر تحديث، أبرزها دخول المطبعة وعلوم ومعارف وخبرات ونظم وتقنيات لم يعهدها العرب من قبل، في تلك الفترة أفاق العرب على واقعهم وأوضاعهم المتردية وانشغل الآباء النهضويون بطرح ذلك السؤال النهضوي الكبير: لماذا تَقدّم الغرب وتخلّفنا؟ أو بحسب تعبير المفكّر الإصلاحي شكيب أرسلان (1869 1946) لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟ وهو عنوان لكتابه، انشغل مفكرو الإصلاح على امتداد قرن ونصف بالإجابة عن هذا التساؤل بالبحث عن مواطن الخلل في تراثنا وثقافتنا وخطابنا الديني والتعليمي والسياسي المعوّقة للنهضة والتقدم، وكانت عندهم الشجاعة الكافية للاعتراف بالأخطاء وتحمّل المسؤولية ونقد الذات، ولم يركنوا إلى ما ركن إليه من جاء بعدهم من رموز الفكر القومي الناصري والبعثي واليساري والإسلام السياسي الذين استسهلوا تحميل الآخر الغربي مسؤولية تخلف الأوضاع العربية وضخّموا سيئات الآخر وانشغلوا بتمجيد الذات القومية واستحضار المآثر الماضية وشحن الجاهير بـ«أمجاد ياعرب أمجاد» في توظيف سياسي وأيديولوجي للدين والتاريخ والثقافة والتعليم بهدف ديمومة التسلّط القومي والديني وانشغال الجماهير بقضايا الصراع الخارجي وإلهائها عن الممارسات القمعيّة البشعة ضد الخصوم السياسيين الذين وُهِموا بأنهم العملاء وأعداء الشعب وأيضاً كتغطية على الفشل الذريع في تحقيق أي إنجاز حضاري في الداخل.
في أعقاب الصدمة الحضارية الأولى شهدت الساحة العربية موجة واسعة من مراجعة الذات، ونقد الأوضاع في محاولة للوصول إلى جذور المعوقات التي أفرزت هشاشة البنية المجتمعية وانكشاف وضعها وضعف مناعتها وتحصينها أمام القوة الغازية، ولذلك كانت هناك مراجعة نقديّة فعّالة لكل المنظومات المعرفية والفكرية والدينية والسياسية، كان الإمام محمد عبده رائداً عظيماً في حركة الإصلاح الديني ومن يقرأ كتابه الذي لايزال حياً نابضاً «الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية» وهو تجميع لمقالات نشرت في مجلة «المنار» في أعداد متوالية في أوائل القرن الماضي. إنه بحق إمام الإصلاح الديني وإمام العقلانية الإسلامية ورائد الليبرالية الإسلامية، وتلاميذه هم رواد «الليبرالية» في مصر في تشخيصهم للعلل المعوّقة وتركيزهم على الداخل وبنية المجتمع والنظام السياسي والثقافة السائدة في الظلم والاستبداد والجهل وغياب العقلانية وغلبة الموروث التعصّبي والتمييزي ضد المرأة والآخر المخالف، ولم يفعلوا كما فعل من أتى بعدهم في رمي أوزار التخلّف على الخارج متمثّلاً في استعمار أو إمبريالية أو هيمنة أو عولمة خبيثة أو غزو فكري ماكر، كما هو السائد في الخطاب القومي والديني، لقد أثمرت جهود الإصلاحيين الأولى انتعاش الفكر الليبرالي الذي أفرز إنجازات حضارية عديدة سياسية واقتصادية واجتماعية، فشهدت مصر خلال الفترة الاستعمارية حريات واسعة تجسّدت في دستور ونظم انتخابية ومؤسسات سياسية وأحزاب معارضة وصحف حرة وإبداع ثقافي وفني لا سابق له، وتحرّرت المرأة وتعلّمت وشاركت في النهضة وتأسّست الجامعة المصرية، لقد كان من ثمار الفكر الليبرالي بناء الدولة الوطنية الحديثة حتى في ظل سلطة المحتل الموازية لسلطة الدولة الناشئة كما يقول وحيد عبدالمجيد، ولكن هذه القيم الليبرالية أُجهضت بقيام الثورة المصرية قبل أن تترسّخ في التربة المجتمعية، وجاءت أمة أهدرت كل المنجزات السابقة لتبدأ من الصفر وتعيد اكتشاف العجلة من جديد فساد الفكر القومي التعصّبي، وتسلّط على الحياة السياسية والثقافية، وفي خلال عقدين من الزمن أفلس وانتهى بهزيمة منكرة، وفي أعقابه حانت الفرصة المناسبة لانتعاش فكر الإسلام السياسي الذي وصل إلى السلطة في بعض الدول العربية والإسلامية وشارك في الحكم، ولكنّه لم يحقّق أي إنجاز حضاري، إنما نجح في شيء واحد هو تعبئة الجماهير بفكر عدمي لا بنائي، فكر الكراهية والصِّدَام الذي أثمر في النهاية قنابل بشرية موقوتة ضد مجتمعاتها ومجتمعات العالم المعاصر.
لا حل أمام العرب تجاه صدمة الحداثة إلا «الليبرالية» المنسجمة مع ثوابت الإسلام وإذا جاز لي فإني أسميها «الليبرالية الإسلامية» متمثلة في العقلانية والفردية وحرية الفكر والحوار والتنافس السلمي وقبول الآخر، لا أرى حلاً آخر ينقلنا إلى بر «الحداثة» غيرها... فهل نفعل؟هذا أمل.
* كاتب قطري ينشر بالمشاركة مع جريدة «الوطن» القطرية