ذات صباح خرج حمزة بن عبد المطلب كعادته، وعند الكعبة وجد نفراً من أشراف قُريش وسادتها، فجلس معهم، يستمع لما يقولون، وكانوا يتحدثون عن محمد... ولأول مرّة رآهم حمزة يستحوذ عليهم القلق من دعوة ابن أخيه... وتظهر في أحاديثهم عنه نبرة الحقد، والغيظ والمرارة.

Ad

لقد كانوا من قبل لا يبالون، أو هم يتظاهرون بعدم الاكتراث واللامبالاة، أما اليوم، فوجوههم تموج موجا بالقلق، والهمّ، والرغبة في الافتراس.

وضحك حمزة من أحاديثهم طويلا... ورماهم بالمبالغة، وسوء التقدير.

وعقب أبو جهل مؤكدا لجلسائه أن حمزة أكثر الانس علما بخطر ما يدعو اليه محمد، لكنه يريد أن يهوّن الأمر حتى تنام قُريش، ثم تصبح يوما وقد ساء صاحبها، وظهر أمر ابن أخيه عليها.

ومضوا في حديثهم يزمجرون، ويتوعّدون... وحمزة يبتسم تارة، ويمتعض أخرى، وحين انفض الجميع وذهب كل الى سبيله، كان حمزة مُثقل الرأس بأفكار جديدة، وخواطر جديدة. راح يستقبل بها أمر ابن أخيه، ويناقشه مع نفسه من جديد...!!

فحمزة خير من عرف محمدا، منذ طفولته الباكرة، الى شبابه الطاهر، الى رجولته الأمينة السامقة.

وعندما جاءته خادمة لعبد الله بن جدعان تخبره بأذى ابو جهل لمحمد، لم يتمالك نفسة وبلغ الكعبة، حتى أبصر أبا جهل في فنائها يتوسط نفراً من سادة قريش.

وفي هدوء رهيب، تقدّم حمزة من أبي جهل، ثم استلّ قوسه وهوى به على رأس أبي جهل فشجّه وأدماه، وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة، صاح حمزة في أبي جهل:

« أتشتم محمدا، وأنا على دينه أقول ما يقول..؟! الا فردّ ذلك عليّ ان استطعت».

أول سرية خرج فيها المسلمون للقاء عدو، كان أميرها حمزة،

وأول راية عقدها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأحد من المسلمين كانت لحمزة.

ويوم التقى الجمعان في غزوة بدر، كان أسد الله ورسوله هناك يصنع الأعاجيب...!

وجاءت غزوة أُحُد، حيث خرجت قريش عن بكرة أبيها، ومعها حلفاؤها من قبائل العرب، وبقيادة أبي سفيان مرة أخرى.

وكان زعماء قريش يهدفون في معركتهم الجديدة هذه الى رجلين اثنين: الرسول، صلى الله عليه وسلم، وحمزة رضي الله عنه وأرضاه... الذي كان يسمع أحاديثهم ومؤامراتهم قبل الخروج الى الحرب، يرى كيف كان حمزة بعد الرسول بيت القصيد وهدف المعركة.

ولقد اختاروا قبل الخروج، الرجل الذي وكلوا اليه أمر حمزة، وهو عبد حبشي، كان ذا مهارة خارقة في قذف الحربة، جعلوا كل دوره في المعركة أن يتصيّد حمزة ويصوّب اليه ضربة قاتلة من رمحه، وحذروه من أن ينشغل عن هذه الغاية بشيء آخر، مهما يكن مصير المعركة واتجاه القتال.

ووعدوه بثمن غال ٍوعظيم هو حريّته... فقد كان الرجل واسمه وحشي عبدا لجبير بن مطعم... وكان عم جبير قد لقي مصرعه يوم بدر فقال له جبير: اخرج مع الناس وان أنت قتلت حمزة فأنت عتيق..!! ثم أحالوه الى هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان لتزيده تحريضا ودفعا الى الهدف الذي يريدون... وكانت هند قد فقدت في معركة بدر أباها، وعمها، وأخاها، وابنها، وقيل لها ان حمزة هو الذي قتل بعض هؤلاء، وأجهز على البعض الآخر.

ووعدته ان هو نجح في قتل حمزة بأثمن ما تملك المرأة من متاع وزينة، فلقد أمسكت بأناملها الحاقدة قرطها اللؤلؤي الثمين وقلائدها الذهبية التي تزدحم حول عنقها، ثم قالت وعيناها تحدّقان في وحشي: كل هذا لك، إن قتلت حمزة..!!

والتقى الجيشان. وتوسط حمزة أرض الموت والقتال، مرتديا لباس الحرب، وعلى صدره ريشة النعام التي تعوّد أن يزيّن بها صدره في القتال.

وراح يصول ويجول، لا يريد رأسا الا قطعه بسيفه، ومضى يضرب في المُشركين، وكأن المنايا طوع أمره، يقذف بها من يشاء فتصيبه في صميمه!

وصال المسلمون جميعا حتى قاربوا النصر الحاسم... وحتى أخذت فلول قريش تنسحب مذعورة هاربة... ولولا أن ترك الرماة مكانهم فوق الجبل، ونزلوا الى أرض المعركة ليجمعوا غنائم العدو المهزوم... لولا تركهم مكانهم وفتحهم الثغرة الواسعة لفرسان قريش، لكانت غزوة أُحُد مقبرة لقريش كلها، رجالها، ونسائها بل وخيلها وإبلها، وأثناء المعركة كان وحشي يتحين الفرصة لإطلاق سهمه على حمزة حتى نجح في تسديد السهم إليه.

هكذا سقط أسد الله ورسوله، شهيداً مجيداً..!!

وكما كانت حياته مدوّية، كان موته مدوّياً كذلك.

لقد أمرت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان... أمرت وحشيا أن يأتيها بكبد حمزة... واستجاب الحبشي لهذه الرغبة المسعورة... وعندما عاد بها الى هند كان يناولها الكبد بيمناه، ويتلقى منها قرطها وقلائدها بيسراه، مكافأة له على انجاز مهمته.

ومضغت هند بنت عتبة الذي صرعه المسلمون في بدر، وزوجة أبي سفيان قائد جيوش الشرك الوثنية، مضغت كبد حمزة، راجية أن تشفي تلك الحماقة حقدها وغلها. ولكن الكبد استعصت على أنيابها، وأعجزتها أن تسيغها، فأخرجتها من فمها.

وانتهت المعركة وأكرم الله حمزة بالشهادة، كما كرمه مرة أخرى بأن جعل من مصرعه فرصة لدرس عظيم يحمي العدالة الى الأبد، ويجعل الرحمة حتى في العقوبة والقصاص واجبا وفرضا.