يبقى أولئك الذين تمعنوا في ما كتب الكواكبي وقاوموا الاستبداد وناهضوا طبائعه، قابعين في سجونهم، من أجل وطن وإنسان وحرية وحياة كريمة، وليسوا يحملون في ذلك منّة لأحد، من غير أن يعني هذا تحميلهم العبء كله ونسيانهم في معاناتهم.يمر الناس على أخبار بعينها مروراً سريعاً. عادة ما تسرق الحروب والنزاعات الداخلية وكوارثها وضحاياها، الأضواء من حيوات أخرى تنتزع بغير عنف مادي مباشر. بغير ضجيج وصراخ وعيون تلتقط الألم من وراء الكاميرات، عادة ما تهز الأولى الضمائر، وتلامس الثانية بصعوبة، السطح الخارجي للشعور. عادة ما يجري التعاطف مع الضحايا الأبرياء الذين لم يختاروا مكان وجودهم في المعركة، وينظر للآخرين ممن صنعوا ساحة معركتهم، بشيء من الاستهتار، والريبة أحياناً. عادة أيضا، ما يكون «للقضية» الكلمة الحاسمة في الموقف من هؤلاء وأولئك، في الوقت الذي لا يبقى فيه من معنى للحق في الحياة والحرية، عندما ينظر إليه بعين مؤدلجة.
وفي غفلة عن أكثرنا، تمضي سنواتهم في الظلمة، عندما يتآكلهم المرض وتخونهم أجسادهم، نقرأ عنهم خبراً مكثفاً هنا أو هناك، ليس من أكثر الأخبار قراءة على أي حال.
البروفسور عارف دليلة ليس إلا أحدهم، عندما صرحت منظمة العفو الدولية أخيراً بأنه بسنواته التي تناهز السبعين، وبسنوات سجنه السبع ونيف، يعاني تدهوراً مستمراً في صحته، وأنه «قد يفقد حياته إذا لم يسمح له بدخول المشفى بشكل عاجل»، تساءلت فيما إذا كانت الحرية والتعددية ومكافحة الفساد، تستحق أن يفقد المرء حياته في سبيلها، وأي موت صامت هذا، لا ترى فيه «الجماهير» «قضية»، ولا تشارك فيه بعزاء، وهو هي، وإن لم تعلم بعد!
الطبيبة فداء الحوراني نقلت من سجنها إلى المشفى منذ أيام، والنائب البرلماني السابق رياض سيف، يصارع مرض السرطان في سجنه، بينما تسخر أقلام وضيعة من مرضه وتتطوع مواقع إلكترونية تؤمن «بالرأي والرأي الآخر»، بنشر ما تعتبره «تنكيتا». خفة الظل هذه ليست إلا شكلاً آخر للموت. الرغبة في إفناء الآخر، وتمريغ الحياة من حيث هي حق مقدس، بأوحال الجهل الأعمى.
والجهمي ليس إلا أحدهم. وفقاً للعديد من المنظمات الحقوقية، فإن المواطن الليبي فتحي الجهمي «مريض للغاية ويحتاج لرعاية طبية عاجلة». والجهمي المعتقل منذ عام 2002، كان قد انتقد الزعيم القذافي وطالب بالإفراج عن المعتقلين السياسيين وإطلاق الحريات الأساسية. هذا بينما صرحت «مؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية والتنمية» التي يديرها سيف الإسلام نجل الزعيم الليبي، بأن الجهمي «يلقى أفضل رعاية صحية ممكنة»، مع العلم أنه «غير متزن عقلياً» وفقاً للمؤسسة المذكورة. ولو ذهبنا معها جدلاً بأن هذا المعتقل لديه لوثة حرية في عقله، وغير متزن بمعايير الاستبداد، لاقتضى ذلك الإفراج عنه فوراً، وفقاً لجميع قوانين العالم التي لا تؤاخذ شخصاً «غير متزن» عن كلام أطلقه أو تصرف قام به.
ومثل هؤلاء كثير في أنحاء مختلفة من هذا العالم في أجزائه الأكثر ظلمة. من كوبا إلى الصين إلى العديد من دولنا العربية. تستنسخ التجارب والخبرات يجري تبادلها. وما طبق في هذا البلد في مرحلة معينة ضد معارضي السلطة فيها، يطبق في بلد آخر في مرحلة مختلفة. ودائماً أشكال التنديد واحدة، ومصادر هذا التنديد لا تختلف أيضاً. المنظمات الحقوقية تطالب وتناشد، ولا نمل أو نكل من تكرار أن الإعلام يتجاهل ويغدو شريكاً متواطئاً بالصمت وشبه الصمت، في عملية السجن والموت البطيء والإدخال إلى المصحات العقلية، وتبقى «الجماهير» مشغولة بقضاياها الكبرى. فليست جميع المعارك معاركها، وليست كل الأرواح بنفس القيمة بالنسبة لها. وهي في زخم بحثها عن هوية ما وكرامة ما وحرية ما، تتعامل بحياد عجيب مع العبث بذلك كله. وقد يكون ذلك اعتياد الهزيمة والإحساس بالعجز، إلى حد الاستنكاف عن توقيع عريضة ولو باسم مستعار! وقد تكون جدران الخوف وطبقات التعب المترسبة في النفس. أم أنهم كما يقول الكواكبي في طبائع الاستبداد: «من غريب الأحوال أن الأسراء يبغضون المستبد، ولا يقوون على استعمالهم البأس الطبيعي الموجود في الإنسان إذا غضب، فيصرفون بأسهم في وجهة أخرى ظلماً: فيعادون من بينهم فئة مستضعفة أو الغرباء أو يظلمون نساءهم ونحو ذلك».
وفي جميع الأحوال، يبقى أولئك الذين تمعنوا في ما كتب الكواكبي وقاوموا الاستبداد وناهضوا طبائعه، قابعين في سجونهم، من أجل وطن وإنسان وحرية وحياة كريمة، وليسوا يحملون في ذلك منة لأحد، من غير أن يعني هذا تحميلهم العبء كله ونسيانهم في معاناتهم. يقول الكواكبي في مقدمته حول تشخيص الاستبداد: «يقول المفادي: الداء حب الحياة والدواء حب الموت». ونقول، الداء الاستهانة بحياة الآخرين وحقوقهم، والدواء حب الحياة واحترامها للجميع، بما هي حق وواجب وحرية وإيمان.
* كاتبة سورية