كانت القيروان أول ما اختطه المسلمون في شمال أفريقيا من المدن والحواضر، ويصفها الجغرافيون العرب بأنها «قاعدة البلاد الأفريقية وأم مدائنها» فقد استدعت مهام الفتوحات بالشمال الأفريقي الحاجة إلى إنشاء قاعدة عسكرية تنطلق منها الجيوش وترجع إليها بعدما لاحظ العرب أن غزواتهم في هذه الأرجاء كانت تنتهي إلى نتائج باهرة، ولكن ما إن يعود جيش الفتح إلى قواعده بإقليم برقة حتى يرفع البربر راية العصيان مجدداً مستفيدين من وعورة المناطق الجبلية في بلادهم ودرايتهم الكاملة بحروب الصحراء شأنهم في ذلك شأن العرب الفاتحين، إضافة إلى تلقيهم العون والإمداد من الأسطول البيزنطي في حوض البحر المتوسط.وعندما نجح عقبة بن نافع القرشي في فتح أفريقيا سنة 50هـ وجد هذا القائد الفذ نفسه في قلة من الجند (عشرة آلاف مقاتل) لا تأمن غوائل هجمات البيزنطيين أو تمردات قبائل البربر فقال لرجاله «إني أرى أفريقية إذا دخلها إمام تحرموا بالإسلام وإذا خرج عنها رجع كل من أجاب منهم عن دين الله عز وجل فهل لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا مدينة تكون لكم عزاً للأبد؟» فأجابه الناس واتفقوا على أن يكون أهلها مرابطين فيها.
وهكذا ظهرت القيروان إلى الوجود في العام الخمسين للهجرة (670م). ولما كان الغرض من إنشائها عسكرياً بالدرجة الأولى فقد رفض عقبة أن يختط قاعدته على شاطئ البحر المتوسط لأنه يخشى هجمات الأسطول البيزنطي في وقت لم يكن للمسلمين فيه بعد أسطول بحري يعتد بقدراته العسكرية.
واختار عقبة أن يجعل موضع القيروان داخل الصحراء حتى لا تكون في مرمى الأساطيل الرومية، وإضافة إلى ذلك كان اختيار عقبة لهذا الموضع متماشياً مع توجيهات الخليفة عمر بن الخطاب بشأن تأسيس الأمصار التي روعيت بدقة في إنشاء الحواضر الإسلامية الأولى حتى بعد وفاة الفاروق عمر، وفي مقدمتها أن تكون المدينة على اتصال مباشر بحاضرة الخلافة لا يفصلها عنها بحر أو مجرى نهر.
وبالإضافة إلى بعد القيروان عن البحر راعى عقبة عند اختيار موقعها وجود مستنقع ماء يفصلها عن البربر، إذ قال لجنوده «قربوها من السبخة فإن أكثر دوابكم من الإبل تكون إبلكم على بابها في مراعيها آمنة من البربر».
أما الرواية ذات الطابع الأسطوري التي ارتبطت بتأسيس القيروان فتتحدث عن جلاء الوحوش والكواسر عن موقعها بفضل دعاء عقبة بن نافع الذي كان معروفاً باستجابة الدعاء حتى أنه كان يعرف بعقبة المستجاب. وتذكر الرواية التاريخية أن عقبة دعا ما كان في الغيضة من الوحوش والهوام وقال «اخرجوا بإذن الله تعالى فخرج كل ما كان فيها حتى لم يبق من الحيوانات شيء وهم ينظرون إليها وبقيت القيروان أربعين سنة لم ير فيها خشاش ولا هوام».
وقد اتبع عقبة في تخطيط المدينة الخطة نفسها التي رأيناها في الأمصار الأولى، فجعل المسجد الجامع في الوسط منها وإلى جواره دار الإمارة ثم قسم الخطط وقطع المساكن والدور وفقاً للانتماءات القبلية التي كانت سائدة في تكوين جيوش الفتوحات وكذلك في ديوان العطاء والجند.
ومن القيروان انطلقت الفتوحات الإسلامية حتى وصلت إلى قمتها بفتح الأندلس في عام 92هـ على يد موسى بن نصير رابع ولاة أفريقية بعد عقبة بن نافع الذي استشهد في موقعة «تهودة» وزهير بن قيس البلوي وحسان بن النعمان وجميعهم اتخذ من القيروان حاضرة لأفريقية.
ولم تفقد القيروان أهميتها بعد استكمال فتوحات أفريقيا والأندلس بل استمرت في الازدهار بعدما تخلت عن طابعها العسكري القديم بدخول البربر في الإسلام وتحول العرب من البداوة إلى التحضر.
وارتفعت القيروان إلى مصاف العواصم الإسلامية الكبرى في عهد الأمراء الأغالبة الذين استقلوا بحكم أفريقية مع الولاء الديني للخليفة العباسي.
بيد أن سقوط المدينة في أيدي الفاطميين كان بداية لانحدار أهميتها فمن ناحية سعى خلفاء الفاطميين إلى تأسيس حواضر ملكية خاصة بهم وبحواشيهم على مقربة منها مثل المهدية والمنصورية وإلى هذه الضواحي الملكية نقلت الصلاحيات الإدارية والنخب الحاكمة والتي كانت تتركز تقليدياً في القيروان فضعفت مكانتها الإدارية.
ومن ناحية أخرى أدى تشجيع الفاطميين بعد انتقالهم إلى مصر لغزوات قبائل بني هلال وسليم (الغزوات الهلالية) إلى إصابة القيروان بدمار واسع نتيجة لحروب القبائل العربية والبربرية بعضها بين بعض. ونلمح أثراً واضحاً لدموية هذا الصراع في الروايات الشعبية المنتشرة في كل من مصر وتونس عن سيرة أبي زيد الهلالي ومناجزه الأول الزناتي خليفة.
ومع حالة الفوضى التي عمت الشمال الأفريقي قبيل الغزو العثماني، بقيت القيروان تحتفظ بسمات الماضي التليد، فيذكر عنها الجغرافي الحميري في كتابه «الروض المعطار في خبر الأقطار» أنها كانت من أعظم مدن المغرب نظراً وأكثرها بشراً وأيسرها أموالاً وأوسعها أحوالاً وأربحها تجارة وأكثرها جباية والغالب على فضلائهم التمسك بالخير والوفاء بالعهد واجتناب المحارم والتفنن من العلوم ولم يبق منها الآن سوى حيز قليل عليه سور تراب...».
وقد اشتهرت القيروان بخزانها الفريد لمياه الشرب والمعروف في المصادر التاريخية بالماجل وهو من إنشاء أحمد بن الأغلب بباب تونس من القيروان «وهو مستدير متناهٍ في الكبر وفي وسطه صومعة مثمنة وفي أعلاها قبة مفتحة على أربعة أبواب. فإذا وقف الرامي على ضفته ورمى بأشد ما يكون من القسي لا يدرك الصومعة التي في وسطه. وكانت المياه تدخل إلى هذا الخزان أثناء الشتاء ليشرب منها أهل القيروان ودوابهم طول العام».
والحقيقة أن هذا العمل الهندسي البديع جاء تتويجاً لجهود إنشاء خزانات أقل اتساعاً قام عليها ولاة أفريقية منذ أيام هشام بن عبد الملك وقد وصل عددها قبل إنشاء أحمد بن الأغلب لهذا الماجل الضخم إلى خمسة عشر ماجلاً.
أما أشهر معالم القيروان الباقية إلى اليوم فهو جامعها الذي أنشأه عقبة بن نافع في عام 50هـ (670م) وإن كانت عمارته الحالية وصومعته تنسب إلى فترات لاحقة إذ شيد الصومعة بشر بن صفوان الوالي الأموي في عمارته التي استمرت أربع سنوات (105– 109هـ/ 3-727م) وتعتبر أقدم مئذنة باقية في العالم الإسلامي، ورغم أن الأغالبة قد عنوا بالجامع وزادوا في مساحته إلا أنهم احتفظوا بمحراب عقبة بن نافع القديم نظراً إلى اعتراض أهل القيروان على أي محاولة لهدمه ويعتبر هذا المحراب بدوره أقدم محراب باق في العمارة الإسلامية.
ولا جدال أن الإبقاء بصورة رمزية على هذا المحراب قد جاء من رغبة جماعية لأهل القيروان تقديراً لدور مؤسس مدينتهم عقبة بن نافع الفهري.