المراصد الإسلامية تحكي تاريخ علم الفلك
عرفت الحضارة الاسلامية علم الفلك وكانت له قواعده العلمية التي يرتكز عليها وصار لهذا العلم مع العصر العباسي وفي خلافة المأمون بن هارون الرشيد، موقع خاص إذ ظهرت المراصد الكبيرة التي لها مواقعها الثابتة والمتميزة وآلاتها الضخمة المصنعة بعناية وحظيت برعاية من قبل الدولة، وكانت للمراصد في عصر المأمون عدة سمات مهمة لعل أهمها البرامج البحثية المحددة، وكانت المهمة الكبرى لتلك المراصد الأولى إيجاد جداول فلكية مبنية على أرصاد حديثة للشمس والقمر فقط. ولكن إضافة إلى كون البرامج المرسومة لها محدودة، فإنها كانت بدائية بعض الشيء من حيث الإدارة والتنظيم المالي، والواقع أن طبيعة العمل المحددة التي نيطت بمرصدي المأمون في الشماسية وقاسيون قد جعلتهما لا يرقيان إلى مستويات المراصد المتكاملة التي عرفها العالم الإسلامي في ما بعد.وظهر المرصد الإسلامي بشكل أكثر تطورا بعد زمن المأمون بحوالي قرن ونصف قرن، وكان أكثر تنظيمًا من الناحية الإدارية، وعندما نشأ مرصد شرف الدولة أصبح له مدير يشرف على تدبير شؤونه، واقترن ذلك بتوسعة برنامج الرصد بحيث صار يشمل الكواكب كافة، ولقد أمكن تحقيق هذا الجانب الأخير من تطور المراصد على مرحلتين، ذلك أن هناك دليلاً على أن بعض برامج الرصد قد اقتصرت على مشاهدة الكواكب السريعة فقط إلى جانب الشمس والقمر.
كانت المهمة الرئيسية للأعمال التي يضطلع بها المرصد تتمثل في إقامة جداول فلكية جديدة لكل الكواكب مبنية على أرصاد حديثة، وكان هناك ميل واضح نحو تصنيع آلات تزداد حجماً على مر الزمن، ونزوع إلى توفير هيئة عاملة متميزة، وذلك بموجب التقدم الذي أمكن تحقيقه في هذا الاتجاه أيضًا، ومن شأن التطورات أن تعمل على تعزيز اعتقاد مفاده أن نشأة المراصد، باعتبارها مؤسسات، ترجع في أصلها إلى الخلفاء والملوك.ويعد المرصد الذي شيده السلطان السلجوقي ملك شاه في بغداد مرحلة أخرى من مراحل تطور العمل في المراصد، وإن لم تتوافر لدينا إلى الآن معلومات كافية عن عمل هذا المرصد، وظل هذا المرصد يعمل فترة تزيد على عشرين عاماً، وهي فترة زمنية طويلة نسبيًّا بالنسبة إلى عمر المراصد، وقد رأى الفلكيون آنذاك أنه يلزم لإنجاز عمل فلكي فترة زمنية لا تقل عن 30 عاماً. ويعد القرن السابع الهجري أهم حقبة في تاريخ المراصد الإسلامية لأن بناء مرصد المراغة تم فى هذا القرن، ويعد هذا المرصد واحداً من أهم المراصد في تاريخ الحضارة الإسلامية، وتقع المراغة بالقرب من مدينة تبريز. بُني المرصد خارج المدينة، ولا تزال بقاياه موجودة إلى اليوم، وقد أنشأه «مانجو» أخو «هولاكو». كان مانجو مهتمًا بالرياضيات والفلك، وقد عهد إلى جمال الدين بن محمد بن الزيدي البخاري بمهمة إنشاء هذا المرصد، واستعان بعدد هائل من العلماء ويعد مرصد المراغة أول مرصد استفاد من أموال الوقف؛ إذ وقفت عليه عقارات وأراضٍ، لكي يتم ضمان استمرارية العمل به؛ ولذا ظل العمل جارياً في المرصد إلى عام 1316م وشهد حكم سبعة سلاطين اهتموا به وبرعايته.والى جانب مرصد المراغة يوجد مرصد سمرقند الذى أسسه «أولغ بك» حفيد «تيمورلنك» في سمرقند، وفي عام 1908 تم الكشف عن موقع هذا المرصد حين نجح «ج.ل فاتكن» في العثور على وقفية من وقفياته تحدد مكانه بالضبط في المدينة، واستطاع في أثناء تنقيباته الأثرية أن يعثر على قوس كبيرة كانت تستخدم في تحديد منتصف النهار، وتعتبر أهم الأدوات الفلكية في المرصد.يقع فناء المرصد الذي يبلغ ارتفاعه حوالي 21 مترا على تل ذي قاعدة صخرية، وتبلغ مساحة سطح ذلك التل حوالي 85 مترًا من الشرق إلى الغرب، وحوالي 170 مترًا من الشمال إلى الجنوب، وتحيط بالمبنى الرئيسي للمرصد حديقة، وأماكن إقامة لغرض السكن. وهذا ما يدل على فخامة المبنى وعظمته، ويستدل من الاكتشافات الأثرية أن ذلك المبنى كان أسطواني الشكل وذا تصميم داخلي دقيق ومحكم.ولم يكن دمار مرصد سمرقند وزواله ناجمين، في رأي فاتكن، عن عوامل طبيعية؛ إذ من المحتمل أن يكون بعض الدمار قد نجم عن استخدام رخامه في عمليات بناء أخرى. وقد وضعت جداول فلكية في المرصد، عرفت بجداول «أولغ بك» وتعد من أدق الجداول في العالم. ومن المعروف أن قبة المرصد، استغلت في وضع الجداول؛ إذ كان يوجد بها نقوش تحدد الدرجات والدقائق والثواني وأعشار الثواني لأفلاك التدوير، وللكواكب السبعة، وللنجوم المتحيرة، وللكرة الأرضية بتقسيماتها من حيث الأقاليم والجبال والصحارى. وممن عملوا في هذا المرصد «غياث الدين الكاشي» الذي برع في ميدان النماذج الميكانيكية للحركات السماوية.