لقد احتلت إسرائيل أراضي عربية، بيد أنها بفضل سلطات رثة وأنانية احتلت سياساتنا أيضا. وبفضل مثقفين من صنف الأنظمة هذه تحتل ثقافتنا ووعينا. ولقد كانت تحتل فلسطين، لكنها اليوم تحتل الفلسطينيين أيضاً. «أسرلتهم»، فصاروا يعملون ما تشتهي مثل المنومين مغناطيسياً.لو تباعدنا عن الحاضر، وتصورنا أننا نلقي نظرة عليه من بعد زماني كاف، نصف قرن من اليوم مثلا، لربما وصفنا زمننا هذا بأنه الزمن الإسرائيلي. ليس لأن إسرائيل تتفوق على العرب أجمعين، الأمر الذي ينبغي أن يبقى أعجوبة رغم كل شيء، ولكن لأنه يبدو أن سياسات العرب في المشرق وتنظيمات دولهم «تأسرلت»، أي انجذبت كالمنوم مغناطيسياً إلى إسرائيل، ترفضها أو تقبلها أو تتحملها، لكنها تتصرف دوماً بدلالتها، فغدت إسرائيل التافهة القطب الذي تدور حوله حياتنا السياسية والوجدانية كلها.
الثقافة ذاتها إما منشغلة برفض الواقعة الإسرائيلية والتنديد بها، أو برفض المقاربة السائدة الرافضة للواقعة الإسرائيلية؛ إما تدعو إلى الحرب ضد إسرائيل أو إلى السلام مع إسرائيل، أو تشغل نفسها برفض محتدم لتلك الدعوة أو هذه، فتدور هي الأخرى حول المحور الإسرائيلي.
ألم نصنع إسرائيل إذن؟ ألا نسهم بفرط انشغالنا بها في صنع السحر الإسرائيلي والانسحار به؟ ألا «نتأسرل»، سياسة وثقافة، بهذا الدوران المستمر حولها، فنغدو سنداً لها ولدوامها من وراء توهمنا مقاومتها؟ ألا نبدو كمن أدمنوا السّكْْرة الإسرائيلية، لا يصحون منها ولا يستغنون عنها؟
أتكون إسرائيل حاجة لنا قبل أن تكون عدواً فرض نفسه علينا؟ أكنا سنخترعها لو لم توجد؟ وإذا كان مفهوماً أن تحتاج نظم استبدادية لدينا إلى «عدو قومي» كي يحوز استبدادها شرعية لا يحوزها من مصدر آخر، أتكون حاجة قطاعات واسعة من المثقفين إلى «العدو الإسرائيلي» من الصنف نفسه: توفر لهم فرصة نادرة لا تتوافر من مصدر آخر لإثبات فائدتهم ووطنيتهم؟
ألا يبدو أننا استسلمنا لاحتلال إسرائيل لنفوسنا وضمائرنا من وراء تثبتنا المفترض على مقاومة احتلالها لأرضنا؟ بل ألا نكون «عملاء لإسرائيل» مجاناً بقدر تمركزنا حولها وتمكينها من احتلال أرواحنا؟ وأي الاحتلالين، يا ترى، أخطر: احتلال الروح أم احتلال الأرض؟
لكن ما إسرائيل هذه التي نجحت في ذلك كله؟ ما مصدر فتنتها الجبارة هذه؟ ليست إسرائيل في واقع الأمر غير اسم آخر لما هو متراكم لدينا من تأخر واستبداد وزيف وسطحية وكذب وهشاشة. هي اسم الذريعة التي ننتحلها لتجنب مواجهة الذات وإصلاحها. لعله لذلك ربما يفيد أن نميز بين إسرائيلين. إسرائيل اليهودية التي قامت قبل ستين عاما في أرض فلسطين. وهي دولة قوية، لكنها دولة مثل غيرها، لا شيء سحريا أو غيبيا بشأنها. وما توكيدها أنها وجدت لتبقى غير تعبير عن شعور دفين يتملكها بأنها طارئة عابرة. وإذ تتصرف بعدوانية وعنصرية وطيش، تكشف عن هشاشتها وغربتها عن المنطقة. أما إسرائيل الأخرى، فهي سحر وجبروت وتفوق، لها ألف ذراع، وعقل يستوعب العالم كله، وتنصر بالرعب، ولها قدرات شيطانية على السيادة على الزمان والمكان والنفوس. إسرائيل الأخيرة هذه من صنعنا مئة في المئة. من سوء تدبيرنا، ومن حيرتنا وعجزنا، وبالخصوص من هشاشتنا النفسية والروحية التي تهرب من مواجهة ذاتها إلى التخوين والتكفير، فتجعل من العدو الغادر ومن الشيطان الرجيم مركزاً لذات لا مركز لها في داخلها، ولا ينتظم عالمها من دونه. لكنها مصنوعة أيضا من حاجتنا إلى تحمل إخفاقنا المتمادي. فإذا كانت إسرائيل على هذه الدرجة من الجبروت والدهاء فإن كرامتنا لا تهدر كلها حين نخسر أمامها. بيد أن الهروب من مواجهة الذات والخشية من فراغ الذات المنخورة هذه، هو ما يفسر في آن إخفاقنا العريق وردود أفعالنا الهوجاء والعنيفة ضد إسرائيل والعالم، ردود أفعال لا تسهم إلا بمزيد من غرقنا في تاريخ ضحل ومن هشاشتنا ومن تعزيز المركزية الإسرائيلية في العالم وفي نفوسنا بالذات.
لقد احتلت إسرائيل أراضي عربية، بيد أنها بفضل سلطات رثة وأنانية احتلت سياساتنا أيضا. وبفضل مثقفين من صنف الأنظمة هذه تحتل ثقافتنا ووعينا. ولقد كانت تحتل فلسطين، لكنها اليوم تحتل الفلسطينيين أيضا. «أسرلتهم»، فصاروا يعملون ما تشتهي مثل المنومين مغناطيسياً.
إن أول التحرر من إسرائيل هو التحرر من «الأسرلة»، أي من المركزية الإسرائيلية. وهذا فعل ثقافي ونفسي وأخلاقي عسير، نقوم به ضد أنفسنا أولاً. فعل ثوري نتحرر به من إسرائيل الثانية، الأمر الذي سيفتح الطريق مستقيماً إلى التحرر من إسرائيل الأولى. وليس من الضروري أن يأخذ التحرر هذا شكل «تحرير فلسطين»، بل لعل من الضروري ألا يأخذ هذا الشكل. أكرم وأنبل وأعدل لأنفسنا وللعالم، ولليهود أنفسهم، أن يأخذ شكل وطن مفتوح للعرب والإسرائيليين، لليهود والمسيحيين وللمسلمين.
ومثلما هناك إسرائيلان ثمة فلسطينان أيضاً. فلسطين التي احتلتها إسرائيل على دفعتين قبل ستين وقبل أربعين عاماً، وفلسطين كاسم محتمل للسداد والكرم والشجاعة والقوة الأخلاقية. فلسطين الأخيرة هذه تحوز منها إسرائيل، رغم عنصريتها وعدوانيتها، أكثر مما نحوز.
وبقدر ما نجترح فلسطين هذه سنقترب من فلسطين تلك. وهذا لا يقتضي مواجهة تكاد تكون مستحيلة اليوم مع إسرائيل، بل فقط مواجهة صعبة مع الذات. فتحرير فلسطين مثل التحرر من إسرائيل، شيء نفعله لأنفسنا.
* كاتب سوري