الإنترنت في العالم العربي لم يصبح بعد من الأدوات الفعالة في خدمة قضايا وقيم حقوق الإنسان... وفي تقديرنا أنه لن يصبح كذلك قريباً. الحقيقة أنه بين «ولاة أمرنا» و«خصوصيتنا الثقافية» و«الجمهور عايز كده»... لا مكان للبطة السوداء!«حقوق الإنسان» عاثرة الحظ، هي أخت ابنة البطة السوداء إياها، التي أثارت أحزان طفولتنا لنبذها من مجتمع بحيرة البط إياه. ولمراجعة القصة كاملة، أحيلكم إلى الرسوم المتحركة. ولملاحظة التشابه بين القصتين، أحيلكم إلى تقرير «الإعلام الإلكتروني وحقوق الإنسان» الصادر عن الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان الشهر الماضي.
خلافاً للزعماء والحكام والحكومات، كان يفترض بالإنترنت أن يكون على علاقة أكثر مودة وحميمية بحقوق الإنسان. وهو قد أصبح ساحة «للجهاد» وعالما للتعارف وحفرة للتنفيس عن مكبوتات غيظنا وقهرنا وصمتنا المديد، لكنه لايزال متمنعاً عن كسر غربتنا الحقوق إنسانية!
باستثناء المواقع الإلكترونية العائدة لبعض المعارضات العربية، تخلو معظم المواقع الأخرى على اختلافها من أيقونة خاصة بحقوق الإنسان. في الأولى، هو موضوع للتنديد بالسلطة الحاكمة بشخصها أكثر منه ترسيخاً لقيم ومبادئ، أما الثانية، فهي إن تعرضت لهذا الموضوع، ففي سياق لا يؤسس لثقافة ولا ينتصر لحق بمعزل عن جانبه السياسي.
أهمية التقرير المذكور أعلاه تكمن في أنه ينقلنا من عموم الأحكام إلى تفاصيل تتحدث عن نفسها. فهو تناول بالدراسة والتحليل ثمانية مواقع إعلامية عربية مهمة، إضافة إلى مواقع حقوقية متخصصة. اعتمدت الدراسة على رصد مواد كل موقع خلال فترة زمنية معينة، وتحليل الخطاب الذي قدمت من خلاله قضايا حقوق الإنسان ببعديها النظري والعملي. ونستعرض هنا جزءاً من هذا التحليل فيما يتعلق بأهم موقعين إخباريين عربيين، أي «الجزيرة نت» و»العربية نت».
يذكر التقرير أن معدل المواد المنشورة خلال عام 2006 التي تحتوي على مصطلح حقوق الإنسان في العنوان، بلغت مادة واحدة كل عشرة أيام في موقع «الجزيرة نت». تركزت المواد في معظمها حول المشاركة السياسية وحركة حقوق الإنسان، بينما تراجعت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الفئات الأكثر تهميشاً إلى نهاية القائمة. يؤكد التقرير الطابع السياسي لاهتمامات الموقع مقارنة بالدعوة إلى مفاهيم حقوق الإنسان والتعريف بها. أما النطاق الجغرافي الذي تشغله تلك التغطية فيشمل أساساً كلا من أميركا، والعراق، والسودان، ومصر. كما أن
الموقع»... قدم قطر باعتبارها واحة للديموقراطية وحقوق الإنسان، ويقوم بتسويق منطقة الخليج على أنها منبر الإسلام وإعلاء شأنه، وقلما تعرض الموقع للقضايا الشائكة في هذه المنطقة...». وفي تحليل الخطاب المستخدم في هذه القضايا عبر استعراض العديد من المواد ذات الصلة، وبغير أن نحمل التقرير مسؤولية استنتاجاتنا، فأقل ما يقال إن التغطية تتسم بأدلجة وتسخير لقضايا حقوق الإنسان عقائدياً وسياسياً. وبديهي أن تلك الأدلجة وذاك التسخير، من شأنهما مسخ ثقافة حقوق الإنسان، بما يضعها في خدمة «الرسالة» التي ينذر موقع إلكتروني ما نفسه لها.
أما موقع «العربية نت»، فقد ظهر في التقرير في حلة حقوقية أكثر أناقة، مع بعض «الزلات» هنا وهناك. فهو ينشر وسطياً ثلاث مواد فقط تتضمن مصطلح «حقوق الإنسان» كل ثلاثة عشر يوماً، وهو ما يعتبره التقرير رقماً صغيراً جداً مقارنة بحجم المادة المنشورة يومياً. «حاز التعريف بانتهاكات حقوق الإنسان المرتبة الأولى من توجه المادة الإعلامية، يليه الدعوة إلى مفاهيم حقوق الإنسان، وفي المرتبة الثالثة نقد (العربية نت) مفاهيمَ حقوقية أومواقف منظمات حقوق الإنسان، وأخيرا الدعاية لبعض الدول في مجال حقوق الإنسان خصوصاً الإمارات والبحرين». ومرة أخرى فإن مصر والعراق وأميركا، تظل من الدول الأكثر تناولا في مثل هذه المواضيع، بالإضافة إلى سورية والسعودية. وإن يحسب له تناوله قضيةَ البدون وإيلاؤها أهمية خاصة، فقد «وضع فرقاً بين موقف الإمارات التي تظهر في الموقع بمظهر الدولة الحديثة التي تحترم قيم حقوق الإنسان وتسعى جاهدة إلى حل قضية البدون...» وبين دول أخرى كالكويت والسعودية حيث يتم تناول القضية فيها بشكل موضوعي. ويسجل للموقع اهتمامه بقضايا المرأة «المسكوت عنها» كالحجاب والاغتصاب والتحرش الجنسي. وإن كنا نرى في طريقة عرض كثير من هذه المواضيع تسطيحاً وترسيخاً للمسافة الفاصلة بين مَن مع؟ ومَن ضد؟
المساحة التي يتيحها الإنترنت للقارئ من أجل التفاعل مع خبر يتناول قضايا حقوق الإنسان، تعكس طبيعة هذا التفاعل ودرجته. هذا يمكن استجلاؤه من تعليقات ومشاركات القراء. فهناك فرق بين خبر سائد يعمل كلسعة كهرباء على تحقيق الصدمة ثم رد الفعل المتشنج، وبين آخر يتجاوز الطبقات السطحية للوعي وردود الفعل المسبقة.
يشير التقرير إلى أن «الإنترنت في العالم العربي لم يصبح بعد من الأدوات الفعالة في خدمة قضايا وقيم حقوق الإنسان...». وفي تقديرنا أنه لن يصبح كذلك قريباً. الحقيقة أنه بين «ولاة أمرنا» و«خصوصيتنا الثقافية» و«الجمهور عايز كده»... لا مكان للبطة السوداء!
* كاتبة سورية