Ad

ربما كان يتصفّح جريدةً فوقع نظره على قصةٍ تتحدّث عن أفريقيا أو ربما حدث ذلك أثناء مشاهدته زمرة شبان في أحد شوارع جنوب شيكاغو فانسابت الذكريات كشلالٍ لا ينضب وقال في سره «لعلّ حال أحدهم مثلي يعيش في أسرة من دون أب». أو ربما تراه يلعب مع ابنتيه ماليا (9 سنوات) وساشا (6 سنوات) فتتصارع في ذهنه الأفكار حول دوره كأب والمعنى الذي اكتسبته حياتهما بفعل مهنته السياسية وكيفية الحؤول دون الوقوع في أخطاء والده فباراك أوباما يعترف بأن ذكرى والده لا تفارقه البتة ويؤكد: «غالباً ما أفكر فيه في مختلف المناسبات والاوقات».

آخر مرة رأى فيها أوباما والده كانت في العام 1971. كان في العاشرة حين أرسل اليه والده خبراً عبّر فيه عن رغبته في زيارته لمناسبة عيد الميلاد، وكان والده تزوج من امرأة أخرى واستقرّ في بلده الأم كينيا. ولكنه بالنسبة الى ابنه كان قد تحوّل شبحاً سرت حوله أخبار تحكي ذكاءً حاداً وعزة نفس مميزة وصوتاً جهوراً.

كلّ ما كان يعرفه الابن عن والده هو أنّه قصد هارفرد طلباً للعلم ولم يعد من رحلته. الشبح هذا سيتجسّد الآن لحماً ودماً. وحلّ اليوم المنتظر فوصل والد الفتى باراك الملقّب بباري. غادر الابن يومئذٍ المدرسة باكراً قاصداً شقة جدّيه وقد تسارعت دقات قلبه فقرع الجرس بعصبية وإذ بجدته تسارع إلى فتح الباب ليظهر أمامه رجل داكن اللون، ونحيل الجسم واضعاً نظاراتٍ بلاستيكية، ومرتدياً سترة زرقاء وربطة عنق قرمزية. يستعيد الابن هذه الذكريات في كتاب «Dreams From My Father»، وهو عبارة عن مذكرات تنبع من أعماق القلب قلّما يعبّر عنها السياسيون وقد كتبها أوباما قبل التفكير بخوض المعركة الرئاسية بوقت طويل.

أمضى الوالد شهراً كاملاً بجوار ابنه الذي كان في الصف الخامس متحدثاً إليه تارةً ومصطحباً إياه طوراً لحضور حفلة موسيقية لدايف بروبيك ولكنه فشل في إعادة اكتساب موقعه الابوي. لمس الابن هذا الامر عشية ذات يوم، حين كان يتهيأ لمشاهدة فيلم حول عيد الميلاد «How the Grinch Stole christmas» فتدخّل الوالد آمراً إياه بالتوجّه إلى غرفته للدراسة. احتدم النقاش بعد تدخّل الجدّين والوالدة لصالح الفتى. ولكن اوباما الوالد كان قد عقد عزيمته تلك الليلة على استعادة دوره كأب فاضطر الابن الى القبوع في غرفته مغلقاً الباب وراءه بعنف وهو يعد الأيام التي تفصله عن موعد رحيل والده لتعود الأمور إلى مجاريها.

هذه الزيارة فتحت الباب على مصراعيه أمام محاولات أوباما الابن لفهم الوالد الغائب وذلك كعنصر أساسيّ لفهم الذات. وكانت تلك المرة الأخيرة التي رأى فيها باري والده هذا الوالد الذي قولب بتصرفاته المسيئة ووعوده الواهية شخصية المرشح الحالي لرئاسة الجمهورية .

وحين يتحدث اوباما اليوم عن رحيل والده يستشهد بجملة معبّرة: «الرجال صنفان صنف يحاول التعويض عن أخطاء والده وآخر يحاول جاهداً أن يكون على مستوى تطلعاته».

شكوك

تلّخص ميشال زوجة المرشح باراك الوضع بشكل مقتضب: «حين يترعرع المرء بعيداً عن والده يفكر في ما لحق به من خسائر جراء تصرّف والده، وهذا بدوره يدفعه الى التساؤل: «ترى من كنت لأكون لو كان والدي الى جانبي؟ هل كنت لأكون أفضل حالاً؟». ويؤدي ذلك الى التشكيك في قدراته الخاصة، واقع يظهر جلياً في الكتاب الذي وضعه باراك بعنوان «The Audacity of Hope» (جرأة الأمل) والذي سجل أكبر نسبة مبيعات عام 2006 حيث يقول: «من بين المجالات كلّها التي خضتها في حياتي أكبر شكّ يساورني هو في قدرتي كزوجٍ ووالد».

هذا السبب بالذات هو الذي دفع دان شامون المستشار السياسي الأعلى لاوباما في ايلينوي إلى حث الاخير على عدم السعي لنيل مقعد في مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة عام 2004 مؤكداً له أن الشعور بالذنب تجاه أولاده سيتآكله من دون شكّ.

وبالفعل عجز أوباما عن إشباع رغبته في الاضطلاع بدورالأب المثالي الذي لم ينعم به يوماً، بسبب غيابه لفترات طويلة لدوافع مهنية. ولكنه عوّض عن الامر بمشاركته في مؤتمرات خاصة بتحسين أداء الأهل وتنظيم حملته بطريقةٍ تسمح له بالتواصل مع ابنتيه الفخورتين بوالدهما الطموح الى درجة خوض الرئاسة على حد تعبير زوجته التي أكدّت من جهة أخرى أنّها تعلّمت من باراك أنّه «ليس من طريقة مثالية لتربية الأولاد».

والد متعدّد الزيجات

بدأ باراك حسين اوباما الأب مشواره كراعي غنم في بلدة أليغو النائية في كينيا، وكان ينتمي إلى قبيلة «ليو» إحدى أكبر القبائل في البلاد. وبسبب ذكائه وشجاعته أنضم في العام 1959 الى مجموعة من الطلاب أرسلوا إلى الخارج لمتابعة دراستهم فنال منحة إلى جامعة هاواي وهو في الـ23 فكان من أولئك الطلاب المتفوقين الذين يلتقون مساء كل جمعة لتناول البيتزا والتكلم عن السياسة والاقتصاد العالميين.   

لم يمض وقت طويل حتى تعرّف أوباما إلى ستانلي آن دانهام- (حملت اسماً ذكورياً لانّ والدها كان يرغب في ولد ذكر) - طالبة في الثامنة عشرة من عمرها بيضاء البشرة من ويشيتا. وفي أواخر العام 1960 ورغم الرفض الذي يلقاه عادةً هذا النوع من الزيجات المحرّمة تزوّج الحبيبان ضدّ إرادة الاهل وأبصر باراك حسين اوباما الابن النور في الرابع من شهر أغسطس عام 1961.

جرأة وعزة نفس

ووفق المقرّبين من أوباما الاب إنّ مجرّد حصول هذا الارتباط في مجتمع كان ينبذ الزواج المختلط بين الأعراق في 22 ولاية كان دليلاً قاطعاً على ما يتحلّى به أوباما الوالد من جرأة وعزة نفس، وهي السمات نفسها التي ميّزت أوباما الابن في نضاله السياسيّ. ولكن الزواج هذا لم يدم وقتاً طويلاً. فعندما نال اوباما الوالد منحة لاكمال دراسته في جامعة هارفرد عام 1963 لم يكن يملك مالاً كافياً لاصطحاب عائلته الصغيرة معه، فهجرها من دون أن ينظر الى وراء وهو تصرّف لم يثر استغراب المقربين اليه الذين لمسوا فيه دوماً تلك الرغبة في أداء دور يتخطى العائلة ليمتدّ الى المجتمع بأسره فهو كان يطمح في التحوّل الى سلطة تغيّر واقع المجتمع في كينيا وربما في افريقيا بأكملها.

وتقدمت آن دونهام بدعوى طلاق في شهر يناير من العام 1964 بسبب «العذاب النفسي الذي كان يتآكلها» بحسب وثائق المحكمة. ومهما استبد بها الغضب كانت تخفي مشاعرها الحانقة عن ابنها حتى أنها كانت تؤكد له مراراً أنّه يستمد ذكاءه وشخصيته وسحره من والده. وبعد سنوات طويلة حين بلغ به الاستياء من والده أشدّ مبلغ كانت والدته تنصحه بألا يحكم عليه بقساوة.

وترى مايا سويتورو وهي شقيقة باراك وابنة دونهام من زوجها الثاني لولو سويتيرو الطالب الاندونيسي الذي التقته في جامعة هاواي، أن هذا الواقع أثّر على اوباما الابن فأصبح أشد استقلالية ولعله أصبح «أشد انطواء على ذاته وأشد عمقاً في التفكير من أبناء جيله» كما تقول وقد انتقلت عائلة سويتيرو للعيش معه في اندونيسيا فأمضى فيها باري 4 سنوات قبل العودة إلى منزل جديه في هاواي للتعلم في مدرسة بوناهو الاعدادية الراقية غير أن الزواج بين دونهام وساوتيرو لم يدم طويلاً أيضاً.

كلّ راشد في حياة باري أوباما كان أشبه بحجر متدحرج فجدّاه أمضيا حياتهما في الانتقال من مكان لآخر، ووالدته كانت في حركة دائمة بين اندونيسيا وهاواي لنيل شهادة الماجستير في الأنثروبولوجيا ثم أصبحت خبيرة مالية أما والده فكان يكتفي بإرسال رسائل غامضة تدّعي الحكمة وقد كتب له ذات يومٍ قائلاً: «كما المياه تجد مستواها الملائم ستجد أنت ايضاً ذات يومٍ المهنة التي ستليق بك».

فكّ اللغز

استغرق الامر سنواتٍ ورحلة الى كينيا في العام 1987 ليفكّ باري لغز والده الدفين وكان قد توفى من حادث سير في العام 1982. وكانت الحقيقة المؤلمة أنّ حياة والده شابتها سلسلة من العلاقات المعقدة انتهت برصيد 4 زوجات و9 أولاد وكان قد وصل الى الولايات المتحدة مخلفاًَ وراءه امرأة كينية حاملاً وولداً آخر. وحين غادر أميركا عائداً الى كينيا اصطحب معه امراة أميركية التقاها في هارفرد وعقد قرانه عليها لمدة قصيرة وانجبت له ولدين.

كان ثرياً بما يكفي لقيادة سيارة مرسيدس ومع أنه كان عالماً اقتصادياً محترماً في بلده لم يبلغ يوماً الذروة التي كان يطمح إليها وألقى ابنه خطاباً في نايروبي عام 2006 جاء فيه: «إن الأفكار التي كان يؤمن بها حول المسار التقدمي الواجب انتهاجه في كينيا أدخلته أحياناً في صراع مع السياسة القبلية والمحسوبيات وبما أنه كان يعبر عن رأيه بصراحة وأحياناً بافراط انتهى به الأمر مطروداً من عمله فبقي عاطلاً عن العمل لسنوات لاحقة». وبعد سنوات حين أصبح «باري الصغير» عضو مجلس الشيوخ في ولاية ايلينوي اتصل به صديق والده ابيركرومبي ليبلغه عن الصداقة التي كانت تربطه بوالده فشكره باراك على الاتصال موحياً أنّه لا يريد المضي بالامر الى أبعد من مجرّد الشكر.

ورغم أنّه هو وابيركرومبي عضوان في الكونغرس إلا أنّهما لا يأتيان على ذكر والد أوباما في أحاديثهما. وكتب أوباما مذكرات من 442 صفحة نشرها في العام 1995 بعد انتخابه على رأس اللجنة القانونية في جامعة هارفرد وكانت المرة الأولى التي يتم فيها انتخاب رئيس أفريقي أميركي في مثل هذا المنصب وهي مذكرات تغوص في غياب الوالد ويظهر أوباما في نهاية الكتاب جالساً بين قبري والده وجده منتحباً وباكياً وهو يقول: «عندما جف الدمع من مقلتي سيطر عليّ هدوء تام فأدركت أن طبيعتي واهتماماتي لم تعد مجرد فكرة مبهمة أو كلاماً منمقاً وأيقنت أن حياتي التي عشتها في اميركا وبشرتي السوداء المائلة إلى البياض والشعور بالوحدة الذي كان ينتابني في صغري وموجات الخيبة والأمل التي عصفت بي في شيكاغو كلّها جزء لا يتجزأ من هذه الأرض الصغيرة التي يفصل بيني وبينها محيط واسع وهو ارتباط يتخطى مجرد الاسم أو لون البشرة ليترفّع نحو الألم، ذلك الألم الذي كان يسببه لي والدي».

 أشخاص مثاليون

ومن يعرف أوباما جيداً يؤكّد أنّه لم يكن بحاجة الى تعويض النقص الناجم عن غياب الوالد، فهو يجيد اقتباس النواحي الايجابية لدى كلّ شخص محيطٍ به فيتعلّم منه ما يعود عليه بالنفع على حد تعبير المسؤول النقابي جيري كالمان الذي عمل مع أوباما لمدة ثلاث سنوات.

هذا التأثر بحياة أناس مثاليين ظهر بوضوح في الخطاب الذي ألقاه أوباما ذات يوم عشية عيد الأب في سبارتنبورغ بجنوب كارولينا حين تكلّم عن عمه الراحل فرازييه روبنسون الذي كان يتردد يومياً إلى مقرّ عمله في مصنع تصريف المياه رغم تشخيص داء تصلب الأنسجة لديه ومع أنه كان لا يستطيع السير بدون عكاز ارسل ولديه إلى جامعة برينستون وهو والد نموذجي في نظر أوباما ثم أخبر قصة جاشوا سترومان البالغ من العمر 22 عاماً وهو طالب في السنة الأخيرة في جامعة بينيديكت في كولومبيا ورئيس الهيئة الطلابية فجاشوا لم ير والده يوماً وعندما كان طفلاً توفيت والدته وزوج والدته من جراء السرطان فأوته عائلة متورطة بالعصابات والمخدرات مما حثه على اختبار هذا النوع من الحياة لفترة قبل أن يبلغ أدنى الدركات ويدخل السجن في سن الـ18، ومنذ ذلك الحين قرر أن يغير مجرى حياته».

جاكي روبنسون ورالف أليسون وكلارنس توماس وآل شاربتون وشاكيل أونيل وسامويل أل. جاكسون كلهم نشأوا بعيداً عن والدهم البيولوجي ويعيش أكثر من نصف الشبان السود الذين يبلغ عددهم 5.6 مليون نسمة اليوم في أسر مجردة من الأب و40% منهم يعيشون في الفقر.

وأحياناً يصادف اوباما أصدقاء بوركوا بوالدٍ يمدهم بالدعم والمشورة اللازمين وهو لا ينكر أنه ينظر إليهم بعين الحسد أحياناً ولكنه لايعرف طعم الندم فالابن الضال ما زال يحاول استخراج النواحي الايجابية التي تميّز بها إرث راعي الغنم الذي راوده أيضاً حلم تغيير أمة.

ويقول أوباما إن الديمقراطيين يقدمون برامج مفيدة ولكنه يملك ورقة رابحة تتمثل في قصة حياته التي رفعت رصيده وهي القدرة على الاتصال بأشخاص عاشوا بعيداً عن والدهم أيضاً فينصحهم بعدم تخليد دورة الغياب التي عانوا منها بل التزام نهج مختلف مع أولادهم ولعله الأمر الذي يستطيع تقديمه كمرشح ورئيس مستقبلي على حد تعبيره.