تقسيم العراق هل هو مثل الكيّ... آخر الدواء؟

نشر في 03-10-2007
آخر تحديث 03-10-2007 | 00:00
 د. شاكر النابلسي

الرأي العام العربي لم يَمُجْ ولم يَهجْ عندما أقرَّ الدستور العراقي مبدأ الفدرالية الاتحادية في مادته الأولى لعام 2005، كما هاج وماج اليوم عندما تبنى مجلس الشيوخ الأميركي هذا القرار، واعتبره غير مُلزم في الوقت نفسه للعراقيين، فكل قرار يأتي من أميركا ملعون ومرفوض في الوعي العربي.

هاج العالم العربي وماج في الأسبوع الماضي عندما صوّت 75 شيخاً من شيوخ الكونغرس البالغين 100 شيخ لمصلحة الفدرالية الاتحادية العراقية المنصوص عليها أصلاً في الدستور العراقي، شرعاً وقانوناً، وأطلق عليها «التقسيم»، وليس الفدرالية، كما جاء في المادة الأولى من دستور العراق لعام 2005 الذي ينصُّ على أن العراق دولة فدرالية اتحادية، ولكن الدستور العراقي ذاك، لم يقل بالتقسيم صراحة.

أين الجديد في القرار؟

الرفض عادة العرب ومهربهم في العصر الحديث، لتجنب التصدي للقرارات المصيرية الأخرى، بدءاً من قرار تقسيم فلسطين 1947 إلى الآن، لقد تمَّ رفض قرار مجلس الشيوخ الأميركي من ديموقراطيين وجمهوريين، من قبل فئات عربية كثيرة لم تقرأ نص القرار، وإنما فزعت من «ثعبان التقسيم». ورُفض القرار كذلك بشدة من قبل فئات عراقية قيادية، اشتركت في وضع المادة الأولى من الدستور العراقي الذي صوّت له 12 مليون عراقي عام 2005، وهي المادة التي تنصُّ على قيام الفدرالية الاتحادية العراقية. وما فعله مجلس الشيوخ الأميريكي هو تبنيه تبنياً سياسياً تشريعياً أميركياً للفيدرالية الاتحادية العراقية المنصوص عليها في المادة الأولى من دستور 2005. وهي الفدرالية التي اتفقت عليها المعارضة العراقية في مؤتمر عام 1999 وقبل سقوط صدام حسين، ولكن الجديد في هذا القرار أنه قال بالتقسيم وليس بالفدرالية. والتقسيم في العراق حاصل وواقع الآن على الأرض، رغم أن كثيرا من العراقيين في الداخل والخارج ومعهم معظم العرب لا يعترفون به.

هل فاض الكيل بالأميركيين؟

وهذا القرار غير مُلزم للعراقيين كما أُعلن، ولكنه - برأي مجلس الشيوخ الأميركي– خارطة طريق للاستقرار، ونشر الأمن والأمان لمن يريد الأخذ به، ويأتي هذا القرار على غرار خطة تقسيم البوسنة والهرسك، ويعتبر – في رأي الشيوخ الأميركيين- الحل الوحيد لوضع حد لأعمال العنف التي تجتاح العراق، وهذا القرار تعبير عن فيض الكيل عند صانعي القرار الأميركي، والرأي العام الأميركي والقيادات السياسية الأميركية الفاعلة والمؤثرة التي –على ما يبدو- فقدت الثقة بالنخب السياسية العراقية الحالية. فجاء الشيوخ الأميركيون بقرار التقسيم، وهي الكلمة المكروهة والمنبوذة في القاموس السياسي العربي، وتعمّد الشيوخ الأميركيون استعمالها بالذات كمخلب قط، لكي تخيف النخب السياسية العراقية، وتوقظهم من سباتهم. وهي كالكي آخر الدواء، عندما تعجز الأدوية السياسية والعسكرية الأخرى كلها عن معالجة الصراعات المذهبية والدينية والعرقية، ويقول مؤيدو هذا القرار الذي تقدم به السيناتور الديموقراطي جوزف بايدن المرشح للرئاسة، إنه يقدم حلاً سياسياً في العراق، يمكن أن يسمح بانسحاب القوات الأميركية من دون ترك البلاد في حالة من الفوضى، وقد يبدو تشكيل فدرالية بين مناطق كردية وشيعية وسنية عراقية فكرة جيدة على الورق، إلا أن منتقديها يقولون إنها تتجاهل المدن التي يعيش فيها خليط من هذه المجموعات الثلاث جنباً إلى جنب وتتزاوج فيها الطوائف، ولا تفصل بينها حدود على الخريطة، ويمكن حل هذا الموضوع بإنشاء أقاليم تضم هذه المدن التي تختلط فيها أديان وأعراق مختلفة، فبدلاً من أن يكون في العراق ثلاثة أقاليم، واحد للكُرد، وواحد للشيعة، وواحد للسنة، تصبح هناك خمسة أو ستة أقاليم، تضم أدياناً وأعراقاً مختلفة... إلخ. كذلك فإن وضع مدينة كركوك سيكون شوكة في حلق هذا القرار، لكن حل وضع مدينة كركوك قد رسمت طريقه المادة 140 من الدستور العراقي لعام 2005، وبالتالي فإن قضية كركوك قضية عراقية بحتة، سوف تحلُّ بالتآلف العراقي.

وهكذا فحال العراق الآن هذا، يشبه حال أولئك الإخوة الذين ورثوا أرضاً زراعية كبيرة عن آبائهم وأجدادهم، ولكنهم اختلفوا على تقسيم غلالها السنوية، وكادوا أن يقتلوا بعضهم بعضاً نتيجة لهذا الاختلاف، فتوصلوا إلى قرار تقسيم الأرض ليأخذ كل فريق منهم حصته القانونية من دون ظلم أو تعدٍ على حق الآخر. وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية العراقية تعليقاً على قرار مجلس الشيوخ الأميركي بقوله: «إن فكرة تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق فدرالية متأتية من أنه إذا لم يتمكن العراقيون من التعايش معاً، فالحل ضمن تصور أصحاب القرار هو فصل هذه الجماعات الإثنية والطائفية كلها في المناطق التي تعيش فيها».

فالحال الآن في العراق أمام خيارين: إما الحرب الأهلية العراقية، وإما الفدرالية الاتحادية العراقية التي يُطلق عليها المشرعون الأميركيون: التقسيم.

عقدة «سايكس–بيكو»

ولكن الفدرالية ليست التقسيم كما فهمه من قرؤوا أو استمعوا إلى قرار مجلس الشيوخ الأميركي، فكما قال وأكد البيان الرئاسي لإقليم كردستان العراق، فإن «الفدرالية لا تعني التقسيم، ولكنها الوحدة الطوعية، والحل الوحيد للمشكلة العراقية». واعتبر البيان أن الفدرالية هي «اعتراف بحقوق وواجبات جميع مكونات الشعب العراقي، بما فيها شعب كردستان الذي يناضل منذ عشرات السنين».

الرأي العام العربي لم يَمُجْ ولم يَهجْ عندما أقرَّ الدستور العراقي مبدأ الفدرالية الاتحادية في مادته الأولى لعام 2005، كما هاج وماج اليوم عندما تبنى مجلس الشيوخ الأميركي هذا القرار، واعتبره غير مُلزم في الوقت نفسه للعراقيين، فكل قرار يأتي من أميركا ملعون ومرفوض في الوعي العربي، حتى إن كنا نحن أصحابه الأصليين، ومذكور في نصوصنا المقدسة.

والرأي العام العربي ربما أنه محق في هذا الهيجان، لأنه مازال يعيش في هاجس التقسيم عشية الحرب العالمية الأولى، ويتذكر تقسيم بريطانيا وفرنسا للعالم العربي بموجب اتفاقية «سايكس–بيكو» السرية عام 1916، التي استبقت بسنوات طويلة النزاعات الدينية والعرقية في العالم العربي، بعد رفع السيف العثماني عن رقاب العرب، ووفرت على العرب حروباً أهلية كثيرة بتقسيمها العالم العربي إلى دول حالية، أصبحت حامدة وشاكرة للغرب صنيعه ذاك! والدليل أن محاولات للوحدة الفاشلة قد جرت مرات عده (أكثر من عشرين محاولة) بعد الاستقلال في النصف الثاني من القرن العشرين، وإلغاء بنود اتفاقية «سايكس–بيكو»، وعودة العالم العربي موحداً كما كان قبل الحرب العالمية الأولى. لكن العرب فضّلوا الصيغ والكيانات السياسية التي أقرتها تلك الاتفاقية. وظلت اتفاقية «سايكس–بيكو» رغم هذا نذير شؤم، وعلامة التقسيم المشين، والتفرقة الاستعمارية، وشعار الانفصاليين في العالم العربي، حسب ما كان ومازال يردده القوميون خاصة حزب البعث، والدينيين، وحركة الإخوان المسلمين التي تسعى إلى إقامة خلافة إسلامية تنضوي تحتها الدول الإسلامية كلها في آسيا وإفريقيا.

* كاتب أردني

back to top