هل هناك مدينة فاضلة؟
البلاد ليست بحاجة إلى بث المزيد من أوهام المدينة الفاضلة التي تطغى على أحاديث المسؤولين وغير المسؤولين ومحاولتهم تصوير مجتمع «عصافير الكناري» و«طيور الحب» في كل شاردة وواردة.
هل يوجد على هذه الأرض مدينة فاضلة أم اننا نفترض وجودها، ونحلم بها، ونسعى إلى أن تكون حقيقة واقعة؟ في هذا السياق يحاول بعضنا أن يصور الكويت مدينة فاضلة، وهي ليست كذلك للأسف، فليس بالإمكان خلق تلك المدينة المفترضة قسراً، أو بالتمني أن تنتهي الخلافات والجدل والشد والجذب الذي يبدو في أغلبه غير مهم.فخلافاً لما كان قد تفتق عنه فكر أفلاطون وتأسيسه مفهوم المدينة الفاضلة والقائمة أساساً على طبقية حادة، فهي لم تكن فاضلة و«لا يحزنون»، فإنه لا توجد على هذه الأرض مدينة فاضلة، ومهما حاولنا أن نضع من مساحيق التجميل وأن نلقي بتمنياتنا وأمنياتنا المشروعة، فإن ذلك لن يغير من الواقع شيئا. فالدولة كيان سياسي اجتماعي تحكمه سيادة القانون والمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص.وعبثاً حاولت، وربما ما زالت تحاول، «البروباغاندا» الرسمية أن تثبت مفاهيم هلامية «كالأسرة الواحدة» أو «مجتمع التكافل»، إلا أنها لا يسندها الواقع والممارسة. ورغم أني من أولئك الذين يتمنون سيادة تلك المبادئ الخيرة، فإن واقع الممارسة يخالف ذلك، فهي مبادئ طيبة مطلوبة على المستوى الفوقي والافتراضي، ولكن على الأرض فإن الواقع مرير، الكل يأكل في الكل، و«الطيور قد طارت بأرزاقها» منذ زمن وما زال هناك طيور تسعى إلى الطيران بما تبقى من «الأرزاق».والحق يقال إنه بالإمكان عملياً أن يستوعب العالم، كل العالم، بموارده الحالية حياة كريمة للبشر كلهم وبموارده الحالية من دون زيادة، بمستوى معيشة يحفظ كرامتهم ويحافظ على الحد الأدنى من حقوقهم، عالم لا فقر فيه ولا فاقة ولا ظلم ولا اضطهاد ولا تعسف، وهي أمنيات أكدت العديد من الدراسات العلمية قابليتها للتطبيق وأن تكون واقعاً معيشاً. فإن كان ذلك هو واقع الحال مع العالم على اتساعه بسكانه الذين يزيد عددهم على 6 مليارات ونصف المليار إنسان بكل تناقضاتهم، فمن الأجدر أن يكون ذلك ممكناً وقابلاً للتنفيذ باقتدار وتفوق في بلد صغير كالكويت، موارده تكفيه وتزيد على حاجته الآنية.لقد آن الأوان لاستيعاب أن الحالة الطبيعية في المجتمعات هي «الحالة الصراعية»، ولا عزاء للذين يسعون بصدق إلى التراحم في المجتمع من أمثالي، ويسعون إلى نصرة الإنسان المهمش أينما كان، ومهما كان، وكائنا من كان، مهما كان اعتقاده أو دينه أو مذهبه أو لونه أو جنسه أو طبقته، فأولئك الساعون إلى مجتمع مثالي، رحيم، متكافل لهم زاوية محدودة وركن قصي في المجتمع قد يؤثر وقد لا يؤثر. فالعالم والمجتمعات خاضعة لأصحاب القوة، فهم يقودونه، وهم يضعون أسسه، وهم يدمرونه متى شاؤوا، ويعيدون بناءه حسب رؤاهم.لقد أدركت المجتمعات التي حققت تقدماً ملحوظاً في كرامة الإنسان واحترام كيانه تلك الحقيقة، وحين اقتنعت تلك المجتمعات بأن «الحالة الصراعية» هي الحالة الطبيعية، لم تجد وسيلة وأداة لإدارة وتقنين تلك الحالة إلا الديموقراطية، على الرغم من مثالبها ومشاكلها وتصورها، فهي على أي حال «أسوأ أشكال الحكم، إذا استثنينا أشكال الحكم الأخرى كلها».والأهم من هذا وذاك، أن الإدراك الغربي ذاك لم يأتِ على طبق من ذهب، أو أنه كان مجرد تمرين «للعصف الذهني» بين مفكرين، بل تم التوصل اليه خلال دمار شامل وحربين عالميتين أكلتا الأخضر واليابس وذهب ضحيتهما عشرات الملايين من البشر. وبالتالي تم إلغاء مفهوم المدينة الفاضلة وحلت محلها الدولة المدنية الحديثة القائمة على الديموقراطية وسيادة القانون والعدالة والمساواة، وبقدر ما يقترب المجتمع من تلك المفاهيم فإنه يقترب من تلك المدينة الفاضلة، وبقدر ما يعبث بتلك المفاهيم فإنه يبتعد عنها. فلا تصبح الديموقراطية إلا وسيلة لتقنين وتنظيم الصراع السياسي الاجتماعي، وهي لا يمكن أن تكون أدوات لجمعية خيرية أو منظمة أخلاقية، فالأخلاق هنا تحكمها القواعد القانونية المرتكزة على مبادئ العدالة والمساواة.وهكذا... فإن البلاد والعباد بحاجة إلى مزيد من تعزيز سيادة القانون ورسم هيبته القائمة على تكافؤ الفرص بين البشر، وهي ليست بحاجة إلى بث المزيد من أوهام المدينة الفاضلة التي تطغى على أحاديث المسؤولين وغير المسؤولين ومحاولتهم تصوير مجتمع «عصافير الكناري» و«طيور الحب» في كل شاردة وواردة، والواقع يذهب بنا بعيداً عن تلك «الأسرة الواحدة» وقد دبَّ فيها الخلاف ومزقها إربا.