في هذا العصر الذي تتزايد فيه مظاهر الحياة الدينية، ويصبح الدين هو الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والقانون يجدر التمييز بين الشرعية الفعلية والشرعية المزيفة باسم الدين. الشرعية الفعلية بطبيعة الحال هي الصدق مع النفس والفعل الحر، والتمييز العقلي بين الحسن والقبح، واتباع الفطرة «استفت قلبك وإن أفتوك». الشرعية الفعلية هي صفاء النية أو ما يسميه القدماء «لوجه الله» من دون رعاية لمصلحة شخصية أو مغنم دنيوي. وصدق النية شرط صحة الفعل. لذلك خصص القدماء جزءاً كبيراً من علم أصول الفقه للتحايل. كيف يكون الفعل شرعياً في الظاهر لاشرعياً في الباطن، وهو ما يسمى في الأخلاق النفاق والرياء، وما يعرف في علم النفس باسم ازدواجية الشخصية.
قد تأتي شرعية السلوك الإنساني من المبادئ الأخلاقية مثل الواجب وهو ما تستطيعه النخبة وأولاد البلد، وهي أخلاق الشهامة والبطولة و«الجدعنة» بالتعبير الشعبي، وقد تأتي الشرعية من العادات والتقاليد وهي سلوك أغلبية الناس «إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون». هي شرعية الواقع والتداول والألفة، لا تغير شيئا في سلوك الناس إلا بقدر ما تتغير هذه العادات نفسها بفعل الزمن وتغير العصور، وقد تأتي الشرعية من القانون وهي شرعية صورية نظراً إلى عدم إيمان أحد به لأنه مفروض من النظام السياسي ويعبر عن مصالح الدولة أو الطبقة الحاكمة وليس عن مصالح الأفراد، يسهل التحايل عليه بتفسيره طبقاً للمصلحة الشخصية أو بالالتفاف حوله أو بالرشوة، وإذا ما طبقت فبدافع الخوف من العقاب والغرامة وليس عن اقتناع داخلي لغياب الولاء للدولة ومعاداة النظام السياسي، وقد تأتي الشرعية من المصالح العامة وإرادة الأغلبية مثل التأميم، والإصلاح الزراعي، والقطاع الخاص، ومجانية التعليم، والسد العالي، وهي شرعية مشروطة بمدى استمرار النظام السياسي والاختيارات السياسية. إنما الأخطر أن تأتي الشرعية باسم الدين في الظاهر وبدافع المصلحة الشخصية في الباطن، وتكثر في المجتمعات الدينية والنظم والثقافة الدينية. والأمثلة على ذلك كثيرة في كيفية ممارسة شعائر الإسلام وأركانه الخمسة، إذ تتمتم الشفتان بالشهادتين أمام الجنازة من دون معرفة أسباب الموت، وفي لحظات العجب والاستغراب والغضب والانفعال الشديد. ويصحب التمتمة رفع إصبع السبابة إلى أعلى إعلانا عن الوحدانية، والشهادة تحتاج إلى فعلين: نفي وإثبات، رفض وقبول. الأول «لا إله»، والثاني «إلا الله»، فالشهادة فعل وليست قولاً، معارضة قبل الموافقة. وتتم الصلاة أمام الناس بالإعلان عنه بالقول والفعل، بالسؤال عن وقتها، واتجاه القبلة، والانشغال عن أداء العمل اليومي في أماكن العمل، لذلك فضّل الصوفية الصلاة بالقلب وليس بالجوارح، والحج إلى ربّ البيت وليس إلى البيت، ويخصص الطابق الأرضي كمصلى في عمارة من عشرات الأدوار وبيع شققها بالملايين مع الغش في مواد البناء ورشوة مهندسي الحي وللإعفاء من العوائد والضريبة العقارية، وتكثر موائد الرحمن من الأغنياء تبريراً لثروتهم بإطعام الفقراء ونيل الحظوة الاجتماعية واطمئنان الضمير، وضمان بقاء الثروة، وتحويل الكسب غير المشروع إلى كسب مشروع، وتكثر العناوين الإسلامية و«اليافطات» وأسماء المحال ذات الرموز الإسلامية مثل «التوحيد والنور»، «الإسلام»، «الإيمان»، في جزارة الأمانة، وبقالة الإخلاص، وسباكة الصدق، وبلح مكة، وروائح المدينة، والطب النبوي. وفي البنوك إذا وجدت النساء طابور الرجال طويلاً دعونَ إلى طابور للنساء منعاً للاختلاط في الظاهر، وأسبقية للتعامل في الباطن، وإذا وجدن طابور النساء طويلاً في مكاتب البريد والاتصالات وقفْنَ مع الرجال، فالإسلام لا يفرق بين المرأة والرجل، والمهم هو طهارة القلب في الظاهر، وفي الباطن لأسبقية التعامل في طابور الرجال القصير، والبنوك الإسلامية تصدر حوائطها وأوراقها بآية «أحل الله البيع وحرم الربا» وهي تضارب في أموال المودعين في البنوك الأجنبية، كما حدث من قبل مع شركات توظيف الأموال، والحجاج بملابس الإحرام يخرجون من منازلهم متوجهين إلى المطار يستقبلون التهاني ذهاباً وإياباً وهم يحيون أهل الحي الذين يودعونهم ويستقبلونهم بالزغاريد، ويأخذ الحاج اللقب ويضعه قبل اسمه كي يطمئن الناس إليه في معاملاته في السوق. وأحد الأسباب في هذا النفاق الاجتماعي والشرعية المزيفة هو ما ورثناه من الأشعرية، عقيدة الدولة، أن الحسن والقبح من خارج الأفعال وليس من داخلها. شرعيتها من أحكام الأمر والنهي وليست من منافعها وأضرارها في حياة الأفراد والجماعات. ولو أمر الله بالقبيح لتم فعله. وبالتالي ضاع استقلال الأفعال، وأصبحت شرعيتها مشروطة بإرادة خارجية، وقد يكون أحد الأسباب الرضوخ لموجة الإرهاب الديني، وتملق الحركات الإسلامية بل المزايدة عليها، وقد يكون بقايا من نفاق اجتماعي عام يضم الحاكم والمحكوم، الدولة والمواطن، الرئيس والمرؤوس. الرئيس ليتسلط، والمرؤوس ليتعايش، «إن كان لك عند الكلب حاجة قول له يا سيد». لذلك نقد القرآن النفاق نقداً شديداً، النفاق مرض في القلب «إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض». وهو كذب مغلف «والله يشهد إن المنافقين لكاذبون»، وهو فسق أي خروج العمل عن النية الصادقة «إن المنافقين هم الفاسقون». وهو خداع للنفس ولله «إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم». يظن المنافق أن نفاقه غير مرئي وهو ظاهر للعيان «يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم». النفاق سلوك الأعراب والبدو «الأعراب أشد كفراً ونفاقاً». يتذرعون بحجج كاذبة لعدم الجهاد «وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون». لذلك حض القرآن على قتالهم ومساواة النفاق بالكفر «يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم». وجهاد المنافقين دحض النفاق وكشف الباطن وراء الظاهر، وإيثار لحظات الصدق مع النفس والاختيار الحر، والشجاعة الأدبية كما كان الحق على لسان عمر وقلبه. لا يحتاج الإنسان إلى الشرعية المزيفة ليكسب أفعاله غطاءً دينياً، يكفيه الاقتناع الذاتي بحسن الفعل وبالتالي تتحقق وحدة الشخصية الإنسانية، ويتوحد السلوك الإنساني، ويكون الإنسان حينئذ جديراً بالتوحيد. * كاتب ومفكر مصري
مقالات
الدين والشرعية المزيفة
15-10-2007