لمَ لمْ أقرأ جبران؟
في مرحلة صبا القراءة، وعلى غير عادة أبناء هذه المرحلة، كنت لا أقرب كتابات جبران خليل جبران. أو كنت أقربها بمشاعر من يقرب نصوصاً غير جدية.
لم أكن أحسن معرفة صفة النص الجدي، والآخر الذي لا يتمتع بهذه الصفة، على أني كنت أجتهدُ، عن غير وعي بالتأكيد، في أن النص غير الجدي هو الذي تُقبل عليه بيسر ومن غير عنت، ويبعثُ فيك مشاعر من يقرأ ليستمتع، لأن من مزايا النص الجدي أن لا يمتعكَ، في الظاهرِ على الأقل. الخطأ القديم كانت له منافعُه أيضاً، محاولة معرفة لماذا أقرأ، ولأي هدف؟ لكن هذه المنافع كانت على حساب جبران بالتأكيد. مع النضج، عرفت أن جبران الإنكليزية يتمتع بما يتمتع به جبران العربية من شهرة وشيوع، بل إن شيوع جبران الإنكليزية (وقد كتب 8 كتب من 17 منها بالإنكليزية)، أوسع بكثير من جبران العربية، عرفتُ أن جبران هو الاسم الثالث الأكثر مبيعاًً بعد شكسبير ولاو تسو، وأن كتابه «النبي»، الذي يتكون من 56 قصيدة نثر يتحدث فيها عن راءٍ يشبه زرادشت نيتشة، قد بِيع منه في أميركا وحدها، منذ طباعته عام 1923، أكثر من 9 ملايين نسخة، وأنه أصبح إنجيل الجيل الستيني الغربي، حتى صار يُباع بينهم قرابة ستة آلاف نسخة في الأسبوع الواحد. وأنه جعل اسم جبران يُطلق على مدارس في أميركا، وجعل نصوصه تُقرأ في حفلات الزواج، والجنائز، ويُستشهد بها في كتب الفن المدرسية، وفي تعاويذ الحمل، والأرق والرغائب. ولكن هذه المعرفة لم تكن كفيلة بترغيبي في قراءة جبران، وإعادة النظر في نصه، الذي رأيته أيام الصبا غير جدي، فمازلت أجده وجدانياً بميوعة، مثالياً من دون صلابة. ثم إن نقّاد الأدب الإنكليز لم يلتفتوا إليه التفاتة مبالية، وجدية، بحيث يدفعني الأمر إلى المبالاة والجد، فلم يصدر عنه في هذا الحقل كتابٌ واحد. وفي حقل السيرة لم يصدر عن حياته، رغم كل هذه الشهرة، إلا كتابان: الأول أصدره ابنُ عمه الذي يحمل الاسم ذاته «خليل جبران» عام 1974، بعنوان «خليل جبران: حياته وأعماله». والآخر أصدره روبن وترفيلد عام 1998 بعنوان «النبي: حياة وزمان خليل جبران». كان في حياة جبران شيءٌ ما من إيهام النفس وإيهام الآخر، يلقي على النص المتسامي ظلَّ ارتياب. حينَ أُسر به الفنان المتصوف فريد هولاند دَي، ذو الميول الشاذة، وجبران بعد في سن الثلاث عشرة سنة، صار يقدمه كرسام في كل محفل على أنه «النبي الصغير». كان والده سكّيراً في لبنان، فأصبحت الوالدة هي المعتَمَدة في تربية الأطفال، هاجرت بهم إلى أميركا، وهناك علمتهم العمل إلا جبران، الذي كان ميالا بطبعه إلى التأمل فصارت تدفع عنه السائلين على أنه غائبٌ رغم حضوره الجسدي. وعلى الرغم من الموت الذي خطف العائلة جميعاً في مرحلة مبكرة، أمه كميلة وأخته سلطانة وأخاه بطرس، ظلّ جبران على طموحه، تحت رعاية وتشجيع جديدين من الكاتبة ماري هاسكل، التي أحبته وأعانته مالياً، حتى أنها أرسلته إلى الدراسة في باريس على حسابها الخاص، فصار يأخذ دعم هاسكل المالي من دون تعويض من عاطفة تجاه المرأة الكريمة، والمولّهة. حين رجع من لبنان عام 1902، بعد سنوات دراسة امتدت ثلاثاً، كان يحكي للصحافيين عن الغنى الكاذب لعائلته الأرستقراطية الذي تركه وراءه، ويتحدث عن اكتشافه للنظرية النسبية، ويضع على لسان النحات رودان، حين التقاه في باريس، كلاماً لمْ يقله، يراه فيه «وليم بليك القرن العشرين»! يضاف إلى ذلك، هذا الإدمان الكحولي على احتساء العرق السوري، كانت أخته ماريانا تزوده به بالغالونات ، ما أدى به إلى تليّف الكبد والموت! أمور كثيرة إذن تُعزز موقفي منذ أيام الصبا، استعدتها وأنا أتأمل الطبعة الجديدة الفاتنة التي صدرت بالإنكليزية لأعماله الكاملة، عن دار «Everyman» الشهيرة.