المؤسسات في المجتمعات الراشدة هي التي تصنع القرار في أناة، وهي التي تحدد أهدافه ووسائل تحقيقه الملائمة. فما المؤشرات الجدية على أن حكومة تصنع وتتخذ قرارها حسب المواصفات المطلوبة في عصرها؟ إنها تفاديها انفجار الأزمات والتحكم فيها بالعودة إلى المفاوضات إذا حدث وانفجرت.- 1 -
إن من أبرز دعائم السلام الدائم بين الأطراف المحاربة أن يكون الطرفان المتعاقدان على السلام متكافئين، فالسلام - كما قال الرئيس الأميركي السابق وودرو ويلسون- لا يدوم إلا بين طرفين متكافئين.
فهل نحن متكافئون مع إسرائيل عسكرياً واقتصادياً وثقافياً وعلمياً، لكي يتحقق السلام الدائم والعادل؟
ولكي يدوم السلام، يجب أن يكون نتيجة الإيمان بالسلام، ونتيجة القوة، والطاقة، والإرادة، والعدالة، ومبدأ النصر. فالسلام لا يمكن تحقيقه بالسلبية والمسْكنة. فالسلبية والمسْكنة تجران إلى الحرب على حد قول الصحافية الأميركية دورثي تومسون.
فهل نحن العرب، نسعى إلى السلام مع إسرائيل نتيجة لقوتنا وتفوقنا العسكري عليها، ونتيجة لإيماننا بعدالة الحل السلمي معها؟ وأننا لا نسعى إلى السلام لأننا وجدنا أنفسنا غير قادرين على الحرب، وأننا لا نملك أدواتها من المال والسلاح والعلم، وأنه لا سبيل إلى استرجاع شبر واحد من الأراضي المحتلة إلا بالسلام.
فهل يدوم مثل هذا السلام - لو تمَّ - بين طرفين غير متكافئين على هذا النحو، أحدهما قوي، والآخر ضعيف؟
إن السلام والعدالة وجهان لعملة واحدة، كما قال الرئيس الأميركي أيزنهاور، وأن السلام ليس مجرد غياب التوتر، ولكنه حضور العدالة، كما قال داعية حقوق الإنسان مارتن لوثر كنج.
فهل السلام العربي-الإسرائيلي يمثل العدالة للطرفين، فيما لو تمَّ؟
- 2 -
دعونا نستعرض بعض عوائق السلام في الشرق الأوسط:
1 - «الخوف» من السلام من قبل العرب والإسرائيليين على السواء. فالإسرائيليون يخافون من السلام، لأنه يكذّب أسطورتهم القائلة بأن الفلسطينيين مجرد «أغيار» محتلين، تمَّ تحرير أرض الميعاد منهم، وأنه لا مكان لدولة بين الأردن وفلسطين. ولأن السلام سوف يذيب إسرائيل في البحر العربي، وسوف يكون السلام سبباً في حرب داخلية بين المتدينين والعَلمانيين، إضافة إلى تلاشي العطف الدولي والتعاطف الإعلامي الدولي مع الدولة العبرية مع زوال الخطر عنها.
2 - يخشى الفلسطينيون السلام، لأنه هو الآخر هزيمة لأسطورتهم القائمة على تحرير فلسطين الانتدابية وإقامة الدولة الفلسطينية على أنقاض إسرائيل.
3 - يأس الفلسطينيين من السلام نتيجة لتجارب المفاوضات المؤلمة بينهم وبين الإسرائيليين، وما تخللها من احتقار ومراوغة وإملاء شروط قاسية، قد عمّق الهوة بين الفلسطينيين ومطلب السلام. وما يحدث عادة أن المرء يفر من اليأس إلى حلول وشجاعة اليأس؛ أي احتقار الموت والعلميات الانتحارية والتمرد والانتفاض، حتى لو كان يعرف أنه مهزوم سلفاً. كما يهرب من اليأس أيضاً إلى التشبث الأعمى بالرموز إلى درجة طغيان الرمزي على الواقعي والعاطفي على المصلحة. فعقلانياً لا قيمة للمبدأ عندما يكون قيداً يمنع التكيف مع المستجدات والفوز بمكاسب عملية على حساب قناعات إيديولوجية أو ثيولوجية.
4 - وجود الذهنية الزراعية لدى الإنسان العربي، وهي الذهنية ذات الإحساس الضعيف بالزمن الخطّي؛ أي التصاعدي. وهي حال الشعوب التقليدية السجينة للمفهوم الدائري للزمن الذي يكرر نفسه عوداً على بدء مع عودة الفصول والمواسم. فهناك استهتار عربي بالزمن كما شاهدنا بوضوح في محادثات كامب ديفيد بين عرفات وباراك وكلينتون في 1999.
5 - أزمة النخب الحاكمة في الشرق الأوسط، تُعبّر عن نفسها في عجزها المتزايد عن السيطرة على الأحداث، أساساً لغياب الشجاعة التي يتحلّى بها القائد السياسي في لحظات اتخاذ القرارات التاريخية، عندما يكون أمام موقفين: إما الفرار من مسؤولياته مجاراة لمزاج جمهوره، وإما مواجهة خطر هذا الجمهور بلغة الحقيقة. فالسياسي لا يكون شجاعاً إلا إذا اقتنع بأن تحقيق أهدافه السياسية أهم من مهنته السياسية. وهذا هو البطل السياسي الذي يعطي لحياته معنى بتحقيق مشروعه، وهو نادر في الشرق الأوسط المسكون بالتهور والجبن السياسيين، لا بالشجاعة السياسية.
6 - امتزاج السياسة بالدين في العالم العربي ولدى اليهود أيضاً. وكذلك امتزاج العوامل النفسية بالسياسية، وامتزاج المصالح بالإيديولوجيا، وامتزاج الوقائع بالمخاوف، وامتزاج الحقائق بالخيالات.
7 - تحكم اللامعقول بالعقول. وتفضيل المجتمعات في العالم العربي مبدأ اللذة على مبدأ الواقع، وأخذ الثأر على أخذ الحق، وتبني «وقفة العز» نتيجة لانتصار جزئي.
8 - وجود قيادات في العالم العربي وفي المقاومة الفلسطينية مأزومة، خائفة من السلام، تقودها الأحداث، ولا تقود هي الأحداث.
9 - وجود أيدٍ لصبيان السياسة، تلعب في أعواد الثقاب، قرب براميل البارود. وحيث القرارات المصيرية لا تصنعها المؤسسات بل أفراد، لا يمكن التنبؤ بنزواتهم الشخصية وشطحاتهم الإيديولوجية أو الصوفية.
10 - عدم انتخاب قيادة فلسطينية ذات مصداقية وتمسكاً بالوعود التي تعطيها. فالعالم العربي والقيادة الفلسطينية كانت تصنع قرار الرجل الواحد، وليس قرار المؤسسات السياسية، ويتم اتخاذ القرار في لحظات، دونما تحليل للمعطيات أو أدنى قدرة على توقع مجرى الأحداث، واقتناص الفرص النادرة. فمعظم القيادات في العالم العربي تفضل الارتجال على التخطيط، ورد الفعل على متابعة الأهداف المرسومة بصبر، والتكتيكات المتناقضة على الاستراتيجيات المدروسة، والحلول السهلة على التفكير في الواقع المضاد.
11 - إن القرار السياسي الخارجي في العالم المعاصر مرصود للتأثير في عالم بالغ التعقيد وغير سهل التوقع. لذا، يتطلب شروطاً، أولها أن تتقاسم المؤسسات المختصة العمل على صنعه. وهكذا لا يعود ثمة من احتمال لسلطان الحاكم الفرد اللامبالي بالمعطيات الموضوعية والضرورات الدبلوماسية والاستراتيجية. وفي المجتمعات العربية، تتم صناعة القرار من قبل الحاكم ومزاجه المتقلب، أما في المجتمعات الراشدة، فالمؤسسات هي التي تصنع القرار في أناة، وهي التي تحدد أهدافه ووسائل تحقيقه الملائمة. فما المؤشرات الجدية على أن حكومة تصنع وتتخذ قرارها حسب المواصفات المطلوبة في عصرها؟ إنها تفاديها انفجار الأزمات والتحكم فيها بالعودة إلى المفاوضات، إذا حدث وانفجرت. لأن العودة إلى المفاوضات هي دائماً هدف صنّاع وأصحاب القرار المعاصر، وفي جميع الأحوال الوقاية من عواقبها، وعدم الانجرار في دوامتها. وكلما كان توقع الأحداث متدنياً أو خاطئاً كانت تكاليف التصحيح غالية، إن لم يصبح التصحيح إشكالياً. وهو ما يحدث كثيراً، وغالباً عندما تكون صناعة واتخاذ القرار لايزالان في الدرجة الصفر من تطورهما، كما كانت الحال على الساحة الفلسطينية، التي تطلبت إعادة هيكلة حقيقية، حيث تآكلت شرعية القيادة الفلسطينية داخلياً وخارجياً.
12 - وأخيراً تهرّب إسرائيل من السلام، الذي لم تعد بحاجة إليه الآن، كما كانت بحاجة إليه، خلال الستين عاماً الماضية. فالأرض العربية التي تحتلها إسرائيل الآن أغلى عندها ألف مرة من السلام العربي، الذي لا يساوي شيئاً الآن عند إسرائيل القوية عسكرياً واقتصادياً وعلمياً وسياسياً. وبذا، سقطت مقولة «الأرض مقابل السلام» التي يتشدق بها الزعماء العرب، وتتغرغر بها النُخب العربية. فالعرب أحوج للسلام من إسرائيل، لأنهم هم الجانب الضعيف، فالقوي لا يطلب السلام.
* كاتب أردني