في استكماله البحث المتعلق بالنهي عن الغدر بالأجانب في بلادهم يشن الدكتور فضل أعنف هجوم شخصي على أيمن الظواهري من دون أن يسميه، مكتفياً بإشارة قاسية عن الذين يهربون تاركين نساءهم وأطفالهم.

Ad

والمعروف أن الظواهري هو الوحيد من بين قادة «القاعدة» الذي فقد أسرته في القصف الأميركي على أفغانستان، بينما تمكن هو من الفرار بصحبة أسامة بن لادن.

ويتحدث المؤلف عن أبطال الإنترنت والميكروفونات الذين يعملون بأموال أجهزة استخبارات، ملمحاً إلى أنه يعلم تفاصيل وقائع محددة.

ثم ينتقل الدكتور فضل إلى بحث آخر يتعلق بالمدنيين في بلاد المسلمين الذين يمثلون هدفاً سهلاً أمام أعضاء التنظيمات الجهادية يشجعهم على الاعتداء عليهم، فيشرح التوصيف الشرعي لهؤلاء المواطنين في بلاد الإسلام بأنهم من مستوري الحال أو مجهولي الحال، وفي الحالين لا يجوز قتلهم على الإطلاق.

ويخصص المؤلف في نهاية هذا البحث فقرة للتنديد بالاعتداءات على الشيعة، كما تفعل «القاعدة» في العراق، فيؤكد أن اختلاف المذهبين لا يبرر جرائم القتل، خصوصا أن الشيعة هم فرقة من المسلمين منذ القرن الأول الهجري.

وفيما يلي نص الحلقة الثامنة:

بقيت كلمة أخرى وهي أن أهل الدين الذين يبتغون وجه الله لا يغدرون، وأن الغدر من العلامات الفارقة بين أهل الإيمان وبين أهل النفاق «وإذا عاهد غدر». كما أن الغدر من العلامات الفارقة بين طلاب الدين وبين طلاب الدنيا. وعن هذه الخصلة سأل هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية أرسل إلى ملوك الآفاق يدعوهم إلى الإسلام ولما بلغت رسالته على هرقل عظيم الروم -وكان أيضًا من علماء النصارى- طلب من جنوده أن يبحثوا بالشام عن أناس من قوم النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءوه بأبي سفيان ولم يكن قد أسلم بعد وكان في تجارة بالشام. فسأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم «هل يغدر» قال أبو سفيان «لا» فقال هرقل «وكذلك الرسل لا تغدر» ضمن أسئلة أخرى حتى قال هرقل «ولقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أعلم أنه منكم» الحديث بطوله متفق عليه. فلا ينبغي لمسلم أن يفرح بأعمال الغدر لأنها من المعايب وليست من المفاخر.

عمليات حربية

وبقيت كلمة أخيرة في هذا البند، وهي للمسلمين المقيمين بالبلاد الأجنبية والذين يُقدم بعضهم على إلحاق الأذى بهذه البلاد وبأهلها. فبالإضافة إلى ما ذكرته في هذا البند من الموانع التي تحول دون تنفيذ عمليات حربية بهذه البلاد، فإنني أقول: إنه ليس من المروءة أن تنزل بقومٍ ولو كانوا كافرين غير معاهدين يأذنون لك في دخول دارهم والإقامة بها ويؤمنونك على نفسك ومالك ويمنحونك فرصة العمل أو التعليم لديهم أو يمنحونك حق اللجوء السياسي مع الحياة الكريمة لديهم ونحو ذلك من أعمال المعروف ثم تغدر بهم تقتيلاً وتخريبًا. لم يكن هذا من خُلق النبي صلى الله عليه وسلم ولا من سيرته، وقد قال الله تعالى «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...» (الأحزاب:21)، لقد كان خُلق النبي صلى الله عليه وسلم شكر الناس وَرَدّ الجميل لكل من أسدى إليه معروفًا، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في فِكاك أسرى بدر من المشركين «لو كان المُطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» رواه البخاري، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه أبي طالب الذي كان يحميه قد خرج إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الإسلام وإلى نصرته فامتنعوا، فلما قفل راجعًا خشي على نفسه من أهل مكة وطلب من المُطعم أن يدخلها في جواره فأجاره، فحفظ له النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعروف، ثم مات المُطعـم كافـرًا قبل غزوة بدر. وبعد الهجرة وتشريع الجهاد خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في سفر، وفقدوا الماء، فاستوقفوا امرأة مشركة وأخذوا ماء من مزادتها (القربة الكبيرة) وجرى حينئذ من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في فيضان الماء ما جرى، ثم جمعوا لها من التمر والسويق، وكانوا بعد ذلك يقاتلون القبائل حول قبيلتها ويتركون قبيلتها حفظًا لمعروفها معهم، حتى أسلم قومها طواعية، والحديث بطوله رواه البخاري.

تحريف الكلم

هكذا كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع من أسدى إليه معروفًا من المشركين. فلا تصدق الذين يحرضونك على خلاف ذلك فإنهم ليسوا من أهل الفقه في الدين، ولا تغتر في استدلالهم بآية أو حديث فإنهم «يحرفون الكلم عن مواضعه» ويستدلون بها على غير وجهها الصحيح، وإنما هم يدعُون إلى الباطل بأدلة من الحق، وقد قال شيخ الإسلام: إن الباطل لا يروج على الناس إلا بخلطه بشيء من الحق، ومن هنا سُميت الشبهة شبهة لأنها باطل يشبه الحق بما داخلها من الحق، هذا حاصل كلامه، وهذا مثل حديث الكهان الذين يخلطون كلمة صادقة بمئة كذبة. فأقول للمقيمين بالبلاد الأجنبية ولجميع المسلمين احذروا هؤلاء الجهَّال واحترسوا من أبطال الإنترنت وزعماء الميكروفونات الذين أدمنوا إصدار البيانات والذين يُلقون بكم إلى المحرقة ثم يهربون حتى عن نسائهم وعيالهم، فقد ألقوا من قبلكم بالكثيرين إلى المحارق والقبور والسجون وبأموال أجهزة مخابرات، والأسماء موجودة وكذلك المبالغ. وأقول لكل مخدوع بهؤلاء:

ستعلمُ حين ينجلي الغُبار... أَفَرسٌ تحت رِجلك أم حمار

هؤلاء الجهلة الجبناء الذين يُشعلون الحرائق ثم يهربون ويتركون غيرهم يحترق بها. أما جهاد الكفار وَرَدّ عدوانهم فطرقه معروفة في علم الفقه، وليس منها الغدر ونقض العهود، ويكفيك قول النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة «إنا لا يصلح في ديننا الغدر»، ولم يقبل منه مال غدرته، والحديث بطوله في البخاري وهو حديث الحديبية.

تاسعًا: النهي عن قتل المدنيين في بلاد المسلمين

الصدام مع السلطات

سبق في البند السادس من هذه الوثيقة أننا نرى أنه لا يجوز الصدام مع السلطات الحاكمة في بلاد المسلمين من أجل تحكيم الشريعة، ولا يجوز التعرض لقوات هذه الحكومات بالأذى للأسباب المذكورة في البند السادس.

وقد عجز البعض عن الصدام مع هذه السلطات فلجأ إلى إزعاجها بارتكاب ما لا يحل له من قتل عامة الناس (المدنيين) لأنهم أهداف سهلة لا حراسة لهم ولا هم مسلحون، وأحيانا يبتلي الله سبحانه عباده بتسهيل المعصية ليختبر صدق إيمانهم وخشيتهم له، كابتلائه المحرم بالحج أو العمرة بتسهيل الصيد وهو منهي عنه كما قال سبحانه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ...» (المائدة:94، 95)، وكما ابتلى يوسف عليه السلام بتسهيل فعل الفاحشة، وكما ابتلى أصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر من اليهود بتسهيل الصيد يوم السبت وقد نهاهم عنه حسب ما ورد بسورة الأعراف، ومن هذا يدرك المسلم أن سهولة فعل شيء ما لا تجيز فعله حتى يعلم حكم الله فيه. ومن هذا الباب قتل المدنيين لأنهم أهداف سهلة. والذي يمنع نفسه من المعصية مع سهولتها وقدرته على ارتكابها هو كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الذين قال الله فيهم «... أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» (الحجرات:3)، ذكره ابن كثير في تفسيره.

الفسق والمعاصي

ولا شك في أن الفسق والمعاصي لا تخرج فاعلها من الإسلام، كما أن السكوت عن المنكرات أو الكفر ليس دليل الرضا ويبني على ذلك «أن الرضا بالكفر كفر» أو أنه «من لم يكفَّر الكافر فهو كافر» فيكفر جمهور الناس، وهذا غير صحيح لجواز الإنكار بالقلب، ولأن المستضعف لا يجب عليه الإنكار باليد ولا باللسان إن خشي على نفسه، بل له رخصة في التقية عند الخوف، ومن هنا كانت القاعدة الفقهية «لا ينسب إلى ساكت قول» إلا ما استثنى الشارع مثل سكوت الفتاة البكر دليل موافقتها على الزواج، فلا يجوز الحكم على الناس بناءً على سكوتهم ولا على اقترافهم بعض المنكرات. وقد أثبت الله الإيمان لمن يكتم إيمانه ويتخفى بدينه واعتقاده فكيف ينسب للساكت قول أو حكـم؟ قال تعالى «وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ...» (غافر:28)، كما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان لمن أنكر المنكر بقلبه وإن لم ينكره بلسانه ولا بيده أي أنه ساكت لم ينطق بشيء ولم يُكفِّر الكافر ولا أنكر المنكر فكيف يُسلب عن هذا حكم الإيمان بعدما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. قال النبي صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يســتطع فبـلسانه، فـإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه ، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا قال النبي صلى الله عليه وسلم «ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن» رواه مسلم أيضًا، وليس لمسلم قول بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكار القلب يكون بكراهيته للمنكر وباجتنابه كما في الحديث «فمن كره فقد برئ» رواه مسلم.

«مستور الحال»

والناس فيهم «مستور الحال» وهو من كان ظاهره الإسلام ولم يظهر منه ما ينقض إسلامه، فهذا معصوم الدم والمال قطعًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» رواه مسلم، وتعمد قتله من أعظم الكبائر كما سبق، وقتله فيه حقوق دنيوية وعقوبات أخروية. وتصح الصلاة خلف مستور الحال وتؤكل ذبيحته من دون اشتراط تبين حاله أو اختبار عقيدته. فكل من ظهرت منه شعائر الإسلام ولم يظهر منه ما ينقض إسلامه لا يجوز التوقف في إثبات حكم الإسلام له لقوله تعالى «... وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً...» (النساء:94)، ولحديث أسامة بن زيد في ذلك، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم» رواه البخاري، فالتوقف في إثبات الإسلام لمن أظهر شعائره فيه مخالفة صريحة لنصوص الكتاب والسنة. وقد قال الله تعالى «..خُذِ الْعَفْوَ ...» (الأعراف:199)، و«العفو» هو ما ظهر من أمور الناس ولا يفتش عن بواطنهم، ولهذا ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس» متفق عليه. وإجراء أحكام الناس على ما ظهر منهم من قواعد هذا الدين المتينة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة» رواه البخاري. وإنما يجوز التبين أو يجب في مستور الحال في مواضع منها قوله تعالى «... إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ...» (الممتحنة:10)، ومنها الأمور التي يشترط لها مرتبة أعلى من الإسلام الظاهر وهي مرتبة العدالة في ما يشترط له العدالة: كالشهود وتقليد الولايات والمناصب وفي الزواج لقوله تعالى «...وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ...» (الطلاق:2)، وقوله تعالى «... يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ...» (المائدة:95)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم «من زوّج ابنته من فاسق فقد قطع رحمها»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه» حديث حسن رواه الترمذي، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لشاهد «إني لا أعرفك، فأتني بمن يعرفك» ذكره ابن ضويان في «منار السبيل»، والعدالة هي «المحافظة على الفرائض والمداومة عليها مع اجتناب الكبائر وترك ما يخل بالمروءة»، ولها تعريفات أخرى تجدها بأبواب الشهادات بكتب الفقه وجمع بعضها الشوكاني رحمه الله في كتابه «إرشاد الفحول». وتعرف عدالة المسلم بمراقبة أحواله وبسؤال المسلمين العدول عنه كما في قول عمر السابق (فأتني بمن يعرفك) لقوله تعالى «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ...» (البقرة:143)، ولما أثنى المسلمون على ميت قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم «وجبت.. أنتم شهداء الله في الأرض» الحديث متفق عليه. هذا بعض ما يتعلق بمستور الحال.

«مجهول الحال»

والناس فيهم «مجهول الحال» وهو من لم يظهر منه ما يدل على إسلامه أو كفره، وهذا حال كثير من الناس، وهذا من مواضع التبين الواجب، فيجب الكف عنه ولا يتعرض له المسلم بأذى، ولا يجب تبين حاله إلا في المعاملات التي يشترط فيها معرفة الديانة أو العدالة كما سبق في مستور الحال.. وقديمًا كان يحكم لمجهول الحال في دار الإسلام بالإسلام ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم «تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» رواه البخاري، لأنه لا يجوز ابتداء غير المسلم بالسلام، وإنما كان يحكم لمجهول الحال بالإسلام لأسباب منها:

1) التميز في الهدى الظاهر (المظهر) بين المسلمين وبين غيرهم، إذ كان يجري إلزام أهل الذمة بلبس الغيار (الثياب المغايرة للبس المسلمين).

2) إقامة حد الردة على من ينقض إسلامه من المسلمين.

ومع غياب هذين الأمرين لا يمكن القطع بالإسلام لمجهول الحال الذي لم يظهر منه شيء من علامات الإسلام أو الكفر. وذهب البعض إلى إجراء حكم الدار على ساكنيها، ورتب على هذا أن مجهول الحال بدار الكفر كافر، وهذا خطأ إذ قد أجاز الله كتمان الإيمان للمستضعف بدار الكفر، وأكد سبحانه ذلك بقوله تعالى «... وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ...» (الفتح:25). وقد كانت مكة دار كفر حتى فتحها عام 8هـ، وكان يسكنها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل الهجرة وبقى فيها المستضعفون بعد الهجرة، وهم مؤمنون ولم يجر على أحد منهم حكم الدار. وكذلك قال ابن تيمية رحمه الله في بلدة «ماردين» أنه يعامل فيها المسلم بما يستحقه والكافر بما يستحقه. ولم يقل أحد من العلماء أن حكم الدار يلحق ساكنيها إلا في مسائل محدودة يتعذر فيها تبين حال الإنسان مثل اللقيط والميت المجهول، وحتى هؤلاء فيهما خلاف، أشار إلى ذلك ابن قدامة في «المغني» وابن القيم في «أحكام أهل الذمة» وابن رجب الحنبلي في «القواعد»، والصحيح أن مجهول الحال لا يقطع له بحكم حتى يتبين حـاله لقـوله تعالى «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...» (الإسراء:36)، وقال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ...» (النساء:94).

التبين درجتان

1) تبين الإسلام: في ما يشترط فيه الإسلام من المعاملات.

2) تبين العدالة: في المعاملات التي تشترط لها العدالة.

وقد سبق هذا في «مستور الحال»، وأعود فأقول إن المدنيين في بلدان المسلمين اليوم هم خليط من أصناف شتى وقد سبق في البند السابع بيان أنه «إذا اختلط المباح بالحرام غلب حكم الحرام».

فكيف يجوز مهاجمة هؤلاء بما يعم إتلافه (التفجيرات) وما الداعي لذلك شرعًا؟ ولو افترضـنا وجـود الداعـي فكـيف يجوز مهاجمة مجهولي الحال بدون تبين وقد قال الله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (النساء:94)، وقد ذكر الله سبحانه هذه الآية بعدما ذكر الوعيد لمن قتل مؤمنًا متعمدًا في الآية السابقة عليها، وكرر في هذه الآية الأمر بالتبين لتأكيد وجوبه، وحذر من الإقدام على قتل مجهولي الحال لتحصيل الأغراض الدنيوية، ونبه عباده أنهم كانوا على هذه الصفة من قبل (كذلك كنتم من قبل) ليكون هذا زاجرًا لهم عن التسرع في التعرض للناس وسفك دمائهم. ولا أظن أن التعرض لعامة الناس في بلدان المسلمين اليوم من الجهاد في سبيل الله في شيء مثل ما حدث من تفجير الفنادق والعمارات ووسائل النقل، هذا كله لا يجوز ولو بدعوى جواز قتل الترس المسلم أو الكافر، وقد سبق بحث مسألة التترس في البند الثامن من هذه الوثيقة. فلا يجوز قتل المدنيين في بلاد المسلمين وفيهم المسلم وغير المسلم وفيهم مستور الحال ومجهول الحال، وقتلهم بالجملة في التفجيرات ونحوها متردد بين الحرام القطعي وبين الشبهة وفي الحديث الصحيح «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» وإذا اختلط الحرام بالحلال يحرم الكل، ولا يوجد أي مبرر شرعي للتعرض لهم أصلاً وننهي عن ذلك أنفسنا وجميع المسلمين أشد النهي، والمنكرات التي يرتكبها بعض الناس ليست عقوبتها الشرعية القتل والتفجير، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعرض للناس بلا تمييز، وتوعد فاعل ذلك بأنه ليس من النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الصيغة من علامات الكبائر، فقال صلى الله عليه وسلم «من خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها، لا يتحاشى مؤمنها، ولا يفي بذي عهدها فليس مني» رواه أحمد ومسلم، وهذه هي العشوائية في أذية الناس.

اختلاف المذهب

أما يكفي للمسلم زاجرا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما» رواه البخاري.

وأما يكفي للمسلم زاجرا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وقذف هذا وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم «اجتنبوا السبع الموبقات - وذكر منها - قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق» الحديث متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم «أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء» متفق عليه.

ولا يجوز التعرض للمنتسبين إلى الإسلام بسبب اختلاف المذهب، فقد ظهرت في زماننا هذا كثير من البدع مثل: القتل على الجنسية، والقتل على المظهر، والقتل على الهوية، والقتل على الأسماء، والقتل على المذهب، ومنه قتل الشيعة، وهم فرقة من المسلمين منذ القرن الأول الهجري، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه «منهاج السنة النبوية» أنه لم يقل أحد من علماء السلف بتكفير الشيعة في الجملة، هذا حاصل كلامه، والمسلم معصوم الدم والمال ,إن خالف في المذهب.

ولا يجوز لمسلم أن يعين على شيء من العدوان، فمن أعان فهو شريك في الإثم قال الله تعالى «... وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ...» (المائدة:2).