حول منع الشيخ القرضاوي من بريطانيا والرسوم المسيئة 2-2
دعا د. أنس الشقفة رئيس الهيئة الدينية الرسمية للمسلمين في النمسا إلى التعامل في مثل هذه القضايا المثيرة بعقلانية وحكمة ومخاطبة العقل الأوروبي باللغة التي يفهمها، ونحن نقول إن الاستنكار واجب والغضب مشروع والاحتجاج مطلوب والمسيرات السلمية مشروعة، ولكن كل ذلك في إطار العقلانية.
لقد أردت بالمقدمة الطويلة والضرورية في الجزء السابق من المقال أن أخلص للقول لهؤلاء المحتجين الذين اعتصموا أمام السفارة البريطانية في ذلك اليوم الأغبر وفي سابقة غير معهودة من قبل، هلّا اعتصمتم واحتججتم وانشغلتم بمسألة إعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وللإسلام وهي القضية التي تمس المسلمين جميعاً ولا تمس شخصاً واحداً؟! ألم يكن ذلك أجدى وأليق؟ نعم قضية إعادة نشر الرسوم المسيئة في 17 صحيفة دنماركية تشغل اليوم شعوب العالم الإسلامي ودوله، وهي قضية تستحق «وقفة» عقلانية من الجميع.ولعلنا نتذكر تلك المسيرات الجماهيرية التي امتدت في أرجاء العالم الإسلامي احتجاجاً وغضباً عقب نشر تلك الرسوم في صحيفة دانمركية مغمورة في سبتمبر 2005. لقد كانت الإساءة حينئذ، عملاً فردياً محصوراً، لكن تمّت مقابلته بمسيرات ضخمة محتجة تخللتها أعمال عنف وفوضى وتشنّجات وإحراق أعلام واعتداء على سفارات وقتل أشخاص ومهاجمة كنائس وإشعال حرائق فيها غير التخريب والتدمير، وغير الجرحى وتهديد رعايا الدول الغربية، مما أساء إلى صورة الإسلام والمسلمين أكثر مما يحقق ردعاً للسفهاء هناك، وإذ نشطت حركة مقاطعة شعبية للبضائع الدنماركية الممثلة في مشتقات الألبان، لكنا أضرت بالمصالح التجارية الوطنية أيضاً، ومع أن التصرف كان فردياً والصحيفة قد اعتذرت إلا أن مشايخ التحريض أفتوا بأن المقاطعة التزام ديني، وأن الشعوب غير ملزمة بالاتفاقات بين الدول، ولم تفلح الاعتذارات التي تكررت ونشرت في الصحف العربية ولا مجيء منسق سياسات الاتحاد الأوروبي «سولانا» معتذراً وقائلاً: إن أوروبا لا تؤيد الرسوم المسيئة، ولا كذلك استنكار رئيس مجلس الكنائس العالمي الذي أدان هذا العمل السفيه، ولا تصريح بابا الفاتيكان في رفضه للإهانة في زحزحة دعاة الكراهية والمقاطعة ومثيري الشغب عن التنازل عن مواقفهم. وكتبت في وقتها أكثر من مقالة منتقداً التجاوزات والعناد وقلت: هاتوا لي مبرراً واحداً شرعياً أو مصلحياً لمعاقبة شعب بأكمله بفعلة صحيفة سيئة، وقلت إن أضرار المقاطعة والتخريب والفوضى لن يفيد منها إلا دعاة الكراهية في الجانبين: الإسلامي والأوروبي، وذكرت أن ما هو الأسوأ من عمل حمقى الغرب العداء الأعمى للغرب، وقد تحقق ما خشيت منه وحذرت، فهذا الذي نحصده اليوم هو بعض ثمار تلك التصرفات اللاعقلانية في الأمس، لقد تكالب سفهاء القوم هناك واجتمعت إرادة 17 صحيفة دنماركية على إعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهم إنما أساؤوا إلى أنفسهم وما يشعرون. وذلك في حركة متعمدة لاستفزاز مشاعر المسلمين، وفي إصرار على الإساءة إلى الدين الإسلامي ومن غير أي سبب يبرر هذه الإساءة غير التظاهر الزائف بأنه لاأحد يركعها من أي ديانة كانت خاصة من المسلمين في تضامنها مع الرسام النكرة في حرية التعبير، ومن المؤسف حقاً أن تصبح حرية التعبير التي تتباهى بها أوروبا منزلقاً إلى مستنقع الكراهية والإساءة إلى أكثر من مليار ونصف المليار مسلم. لقد استنكرت رابطة العالم الإسلامي هذا العمل السفيه، كما أدان أكثر من 150 عالماً هذا التصرف البذيء مطالبين الحكومة الدانمركية بإجراءات لمنع تلك الإساءة، كما أصدرت العديد من المنظمات واللجان الداعية إلى نصرة النبي صلى الله عليه وسلم بيانات الاستنكار، ولكن اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء ولأول مرة لم تصدر أي بيانات رغم أنها الأقدم في هذا المجال منذ عام 2002، وعلل أمينها العام بأن الأزمات الماضية علمتنا أنه لا فائدة من بيانات الشجب والاستنكار وأن تجاهل ما يقوم به «سفهاء الغرب ومتطرفوه هو الرد المناسب» وموضحاً أن تلك الحملات هدفها تحقيق ردة فعل المسلمين العنيفة لاستغلالها ضد الإسلام، لذلك علينا تجاهلها من منطلق أن الشخص الذي يرسمونه ليس رسول الله، بل هو شخص يعرفه أو ابتدعه هؤلاء السفهاء، كما يلاحظ أن بيان رابطة العالم الإسلامي طالب بعدم الانجرار للاستفزاز ودخول دوامات ردود الأفعال الانفعالية، وأن رسالة الإسلام رسالة عالمية وإنسانية خالدة، وقد تكفل الله بحفظها. كما دعا د.أنس الشقفة رئيس الهيئة الدينية الرسمية للمسلمين في النمسا إلى التعامل في مثل هذه القضايا المثيرة بعقلانية وحكمة ومخاطبة العقل الأوروبي باللغة التي يفهمها من دون تشنج وعصبية، محذراً من أن هناك أيدياً خفية تريد أن تلعب بعواطف المسلمين وتعمل على تهييجهم.ختاماً: الاستنكار واجب والغضب مشروع والاحتجاج مطلوب والمسيرات السلمية مشروعة لكن كل ذلك في إطار العقلانية وعدم الإضرار بأنفسنا وعسى أن نتعلم هذه المرة من الدروس الماضية.* كاتب قطري