Ad

أعتقد أن الإسلام ساهم برافده الثقافي في تعميق توجّه البشرية الحضاري باتجاه احترام التنوّع والتعدّدية والخصوصية الثقافية والدينية، ولعل «حلف الفضول» الذي أبرم في عهد الجاهلية، والذي تعاهد فيه فضلاء مكة على ألاّ يَدَعوا مظلوماً من أهلها أو ممن دخلها من سائر الناس إلاّ نصروه على ظالمه، خير دليل على العمق الحضاري العربي.

شهد القانون الدولي في العقود الثلاثة الماضية تطوراً إيجابياً في ما يتعلق بحقوق الأقليات، حيث غطّت العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية ميدان عدم التمييز تغطية جيدة، وحظيت «الحقوق الخاصة» باهتمام كبير، خصوصاً بعد إبرام «إعلان حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية أو أقليات دينية أو لغوية»، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ47 برقم 135 في 18 ديسمبر 1992، وتجلى الأمر على نحو أوضح بإنشاء الفريق العامل المعني بالأقليات عام 1995، وذلك اعتماداً على «الحقوق الثقافية».

ومع أن تعريف الأقلية ليس محل إجماع، بل يثير الكثير من الالتباس والجدل إلاّ أن التوصيف الوارد في الإعلان، أو مقاربته بخصوص الأقليات أو الجماعات القومية والإثنية والدينية يكاد يكون الأقرب إلى تحديد مفهوم الأقلية. إن الهوية الثقافية لبعض الأقليات تعتمد على شعور قوي بالتاريخ، خصوصاً عندما تكون تلك الأقلية قد تمتعت بشيء من الاستقلالية، أو الخصوصية المتميزة في إدارة نفسها.

ويقصد بالحقوق الخاصة، الحفاظ على تلك الهوية والخصائص الذاتية والتقاليد واللغة في إطار المساواة وعدم التمييز. ونصّت المادة 27 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على ما يلي: «لا يجوز في الدول التي لا توجد فيها أقليات إثنية أو دينية أو لغوية، أن يُحرم الأشخاص المنتمون إلى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة، أو إعلان ممارسة دينهم أو استخدام لغتهم بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم». وتؤكد هذه المادة الحق في الهوية القومية أو الإثنية أو الدينية أو اللغوية، وحق الحفاظ على الخصائص المتميزة، التي لابد من تنميتها وحمايتها، ولا يعفي ذلك دولة من الدول من الالتزام بهذه الحقوق باعترافها أو عدم اعترافها رسمياً بوجود أقلية من الأقليات.

ويمنح إعلان حقوق الأقليات الصادر عام 1992، والمؤلف من 9 مواد، الأشخاص المنتمين إلى أقليات عدداً من الحقوق منها:

حماية الدول لوجودهم وحقوقهم (م/1). والحق في التمتع بثقافتهم الخاصة (م/2). والحق في المشاركة في الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية العامة (م/2- الفقرة الثانية). والحق في إقامة صلات سلمية، ومواصلتها مع سائر أفراد جماعتهم، والحق في إنشاء روابط خاصة (م/2 –الفقرة 495). وحق ممارسة الحقوق فردياً وجماعياً، و من دون تمييز (م/3).

وبالقدر الذي يتطلب مراعاة الخصوصية الثقافية والقومية والدينية وتعزيزها بوجه محاولات «الإلغاء» و«التهميش» و«الإلحاق» و«الاستتباع»، بحجة «الشمولية» والثقافة السائدة أو العالمية، إلاّ أنها لا ينبغي أن تكون وسيلة للانتقاص أو التملص أو التحلل من المعايير والالتزامات الدولية، خصوصاً في القضايا الأكثر راهنية وإلحاحاً بما أبدعه الفكر الإنساني وما توصلت إليه البشرية، وهو ملكها جميعاً، تعمق على مرّ العصور، وهو لا يقتصر على قارة أو أمة أو شعب أو جماعة، بل هو مزيج من التفاعل الحضاري للثقافات المتعددة المشارب والتكوينات والمصادر.

وأعتقد أن الإسلام ساهم برافده الثقافي في تعميق توجّه البشرية الحضاري باتجاه احترام التنوع والتعددية والخصوصية الثقافية والدينية، ولعل «حلف الفضول» الذي أبرم في عهد الجاهلية في دار «عبدلله بن جدعان»، حين تعاهد فضلاء مكة على ألاّ يَدَعوا مظلوماً من أهلها أو ممن دخلها من سائر الناس إلاّ نصروه على ظالمه، خير دليل على العمق الحضاري العربي، حيث أبقى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي ما بعد عكست تعاليم الإسلام والقرآن الكريم النزعة الإنسانية المتأصلة، وهناك من يعتبر «حلف الفضول» أول رابطة لحقوق الإنسان في العالم، وأراني منذ نحو عقدين من الزمان وأنا أدعو إلى ذلك، أن أقرّ بالدور الريادي للمفكر العربي السوري د.جورج جبّور الذي واصل الفكرة بإصرار لا نظير له لتصبح «واقعاً» بدأت تعترف به بعض المنظمات والجهات الدولية الحقوقية.

وكان دستور المدينة أول دستور مكتوب في العالم يتناول الحقوق والواجبات ويتضمن حقوق الطوائف والأديان والتكوينات التي تعيش في المدينة (يثرب) التي جاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- مهاجراً وكتب فيها شرعة أو دستور المدينة. وإذا كان دستور المدينة قد ضمن حقوق اليهود فإن صلح الحديبية كان قد ضمن حقوق نصارى نجران التي تعني الاعتراف بالتنوع الثقافي والديني.

أما العهدة العمرية فهي عبارة عن وثيقة أصدرها الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعد معركة اليرموك الشهيرة التي انتصر فيها العرب على الروم، وعند دخول الفاروق مدينة القدس استقبله أهلها من دون أن تراق قطرة دم واحدة وأعطاهم العهد المشهور «العهدة العمرية» وتضمن العهد حفظ الحقوق، مؤتمناً على نصارى وطوائف القدس على حياتهم وأمنهم وكنائسهم وأموالهم.

كما تضمنت وثيقة فتح القسطنطينية التي أعطاها محمد الفاتح إلى سكان إسطنبول (الآستانة) منح الحقوق إلى أهلها والأمن والسلامة الشخصية وحفظ المال والعرض وحق تأدية الطقوس والشعائر الدينية خصوصاً أن معظمهم من المسيحيين.

إن ضمان حقوق الاقليات الثقافية تبدأ خطوته الأولى من الاعتراف بالتنوّع والتعددية!!

* كاتب ومفكر عربي