إذا كانت الحرب الباردة قد انتهت حقاً، فلماذا لاتزال ميزانية الولايات المتحدة العسكرية في ارتفاع قياساً بجميع ميزانيات العالم العسكرية مجتمعة؟ وتريد الولايات المتحدة نصب صواريخها على حدود روسيا، لكنها في الوقت نفسه تعترض على صواريخ روسية داخل أراضي روسيا! ومثل هذا التوجه تتعامل به مع الصين، التي انتقدت ميزانيتها العسكرية.

Ad

عندما أعلنت إدارة الرئيس الأميركي بوش، أنها ستنشر نظام صواريخ في جمهوريتي التشيك وبولونيا وعلى حدود روسيا، ردّ الرئيس الروسي بوتين، بأنه سيوّجه الصواريخ الروسية نحو أوروبا.

«أزمة الصواريخ» إذا جاز لنا إطلاقها على اللحظة الراهنة للعلاقات الأميركية- الروسية، استعادت ذكريات مؤلمة عن سباق التسلّح الذي شهدته فترة الحرب الباردة، منذ أن أطلق ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، صرخته عام 1947، معلناً أن التحالف القديم ضد الفاشية والنازية، الذي أنشئ في الحرب العالمية الثانية قد انتهى، وما على العالم الحر إلا شن حرب إيديولوجية ودعائية لإثبات فضائله وقيمه بالضد من النظام الشمولي-الشيوعي.

هكذا انقضى الحلف القديم الذي أقيم ضد ألمانيا النازية ودول المحور، بين الاتحاد السوفييتي والدول الغربية، وتأسس على أنقاضه معسكران متضادان، متصارعان للفوز بعقول الناس وقلوبها في عالم يزداد تباعداً بحكم الصراع الدائر بين المعسكرين، وجرت استقطابات في نظام العلاقات الدولية للقرب أو البعد من المعسكرين الرأسمالي (الغربي) والاشتراكي (الشرقي) وقيمهما وطريقة عيشهما وخياراتهما السياسية والاجتماعية والتنموية، وكانت المنافسة في كل شيء ابتداءً من الثقافة إلى غزو الفضاء.

الحرب الباردة التي احتدمت في أواخر الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وبخاصة خلال أزمة الصواريخ التي أراد الاتحاد السوفييتي السابق نشرها في كوبا، وفي الكثير من الاحتكاكات بخصوص الدول النامية وبلدان ما سميت بحركة التحرر الوطني في آسيا وافريقيا، بدأت تخف، بل وتتراجع خصوصاً منذ أواسط السبعينيات، فسباق التسلح وحمى المنافسة العسكرية وصلا إلى خطوط حمر عندما خصصت الولايات المتحدة في ما سمي بـ «حرب النجوم» تيريليوني دولار كميزانية للتسلح، تلك التي لم يكن بإمكان الاتحاد السوفييتي مجاراتها بها، وهو ما أعلنه غورباتشوف خصوصاً في آخر أيام ما سمّي بسياسة الوفاق الدولي Détant، وبعد توقيع العديد من الاتفاقيات الدولية مثل «سالت 1» و «سالت 2» وغيرها إضافة الى التخلي عن منظومات عديدة للصواريخ البعيدة المدى.

كانت سياسة التعايش السلمي قد وجدت طريقها خلال التوازن الاستراتيجي في فترة الحرب الباردة، وانتعشت خلالها المعارك الإيديولوجية والدعائية، تلك التي قال عنها الرئيس جون كيندي ومجمع الأدمغة أو «تراست العقول»، الذي عمل بمعيّته: إنها حرب بناء الجسور، التي ستعبرها البضائع والسلع والأفكار والسائحون، وهي التي ستحقق النصر مع «إمبراطورية الشر» كما عُرفت لاحقاً مروراً بعهد الرئيس جونسون والرئيس جيمي كارتر، وصولاً بعهد الرئيس دونالد ريغان.

سياسة «الوفاق» التي بدأت ملامحها واضحة منذ مؤتمر الأمن والتعاون الاوروبي الذي حضرته 33 دولة، إلى أميركا وكندا 1975، وصلت في أواخر الثمانينيات إلى «إعلان ظفر» الليبرالية كنظام سياسي واجتماعي وانهيار وتآكل المنظومة الاشتراكية، خصوصاً في ظل احتقانات وأزمات شديدة، لعل أبرزها النقص الفادح في الحريات وبخاصة المدنية والسياسية، إضافة الى عدم قدرتها على السير في سياق التسلح الى ما لا نهاية !!

بإعلان انهيار جدار برلين، انهارت منظومة كاملة كانت مؤشراتها تظهر على السطح منذ حركة «ليخ فاليسا» ونقابة تضامن في بولونيا مروراً بحركة احتجاج اجتماعي وسياسي كبرى في المجر، ومن ثم سقوط أنظمة الحزب الواحد التوتاليتارية في بولونيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية ورومانيا، وصولاً إلى تفكك وتفتت يوغسلافيا والاتحاد السوفييتي.

كان مؤتمر باريس (خريف 1990) ومؤتمر برلين (صيف 1991) إيذاناً بانتهاء عهد الحرب الباردة، خصوصاً بما صدر عن الأخير من وثائق، أكدت نظام حرية السوق ومبادئ التعددية ومراقبة الانتخابات واحترام حقوق الانسان، لكن السؤال الكبير الذي يواجهنا: لماذا إذن الرئيس بوش نشر صواريخ على حدود روسيا؟ وهل يُعقل تبريره أنه يريد حماية أوروبا من الدول المارقة أو الخارجة على القانون مثل إيران وكوريا الشمالية؟! فمن المعلوم أن إيران لا تمتلك صواريخ تصل الى أوروبا وأن كوريا الشمالية هي أقرب إلى أميركا منها الى أوروبا!

السؤال الآخر الذي يواجه المراقبين: إذا كانت الحرب الباردة قد انتهت حقاً، فلماذا لاتزال ميزانية الولايات المتحدة العسكرية في ارتفاع قياساً بجميع ميزانيات العالم العسكرية مجتمعة؟

تريد الولايات المتحدة نصب صواريخها على حدود روسيا، لكنها في الوقت نفسه تعترض على صواريخ روسية داخل أراضي روسيا! ومثل هذا التوجه تتعامل به مع الصين، التي انتقدت ميزانيتها العسكرية.

أثمة في الأمر شك في عودة الحرب الباردة، أم إن الأمر يتعلق بتجديد سياسات الهيمنة المطلقة، التي يتبناها العقل الاستراتيجي الأميركي خياراً وحيداً في الظرف الراهن، خصوصاً وانه يعتقد بالتفوق استناداً الى ظروف كونية معرفية وواقعية (طوعاً أو قسراً) ناهيكم عن كونه إقراراً تريده الولايات المتحدة وتردده باعتبارها «مصدر القيم ومنبع الخيرات»؟!

هل بإمكان بوتين أن يعيد فتح بوابات الحرب الباردة بعد أن أغلقها غورباتشوف؟! ثم ما هو الثمن لذلك؟!

كاتب ومفكر عراقي