Ad

ظل المرابطون يمارسون نشاطهم السياسي والديني في جبال «مصمودة»، إلى أن خرج الفقيه عبد الله بن ياسين إلى أغمات ومنها إلى تامسنة لحرب قبائل برغواطة التي ارتدت عن دين الإسلام، كان ذلك في عام 450هـ (1058م) إذ أصبحت أغمات قاعدة للمرابطين، وانفرد أبو بكر بن عمر بالسلطة فيها بعد مقتل ابن ياسين في تامسنة.

ولأغمات قصة ودور في إنشاء مراكش -أول ما شيد المرابطون من حواضر في المغرب الإسلامي- ذلك أن أغمات ازدحمت بالسكان بدءاً من عام 461هـ (1068م) وضج أهل العدوتين (القسمين) من قبائل هيلانة وهزميرة بالشكوى وطلبوا البناء في موضع أفسح وأنسب، وكان أبو بكر يقيم آنذاك في خيام الوبر، ويوشك على الزواج من السيدة زينب النفزاوية التي يرتبط اسمها بنشأة مراكش؛ إذ تذكر الروايات التاريخية أن الأمير المرابطي أقدم على بنائها ليسكن بها مع زوجته الجديدة ولتكون بعضا من صداقها.

وزينب النفزاوية التي تلقب بزوجة الملوك كانت في ما سبق زوجة لأحد حكام أغمات الذين يختارون سنويا، ثم أصبحت من بعده زوجة لأمير أغمات لقوط بن يوسف، ويقال إنها تزوجت بالأمير أبي بكر بن عمر فشرع في تشييد مراكش لتقيم بها وبعد أن طلقها، تزوجها يوسف بن تاشفين الذي يعتبر المؤسس الفعلي لمدينة مراكش.

وهكذا فإن زينب النفزاوية كانت وراء تحفيز بناء المدينة سواء عند وضع أسسها الأولى في عام 461هـ أو استكمالها بدءا من عام 463هـ على يدي زوجها الجديد يوسف بن تاشفين. وحسب روايات المؤرخين فإن هذه السيدة كانت امرأة طموحا لبيبة ذات رأي وحزم لا ترضى من الرجال إلا بذوي الهمم من الملوك وكان يقال لها الساحرة أو الكاهنة.

ونظرا لتنازع قبيلتي هيلانة وهزميرة على اختيار موضع بناء مراكش على مقربة من مضاربهما فقد وقع اختيار المرابطين على بقعة خالية من البناء بعد قرابة عام من البحث والتقصي والجدال بين القبائل.

ويوصف الموضع بأنه خلاء من بلاد هيلانة وبلاد هزميرة لا أنيس به إلا الغزلان والنعام ولا ينبت فيه إلا شجر السدر والحنظل، ولما كان خرابا مخوفا يحف به قُطّاع الطرق فقد أطلق عليه في اللهجة البربرية المحلية اسم «مراكش» بمعني «أسرع الخطو» عند عبور هذه المنطقة الخطيرة.

والحقيقة أن اختيار موقع مراكش اتسم بحكمة اقتصادية واضحة، إذ كان قربها من وادي تنسيفت سببا في توافر المياه الجوفية على عمق ثلاثة أمتار تقريبا من سطح الأرض وكانت أراضيها الواقعة على سفح جبل درن خصبة صالحة للزراعة.

وإضافة إلى ذلك فقد كان قربها من الكثافة السكانية في جبل درن وإطلالها علي قبائل برغوطة المرتدة من الأسباب العسكرية والاستراتيجية وراء اختيار هذا الموضع.

ومهما يكن من أمر فقد نمت مراكش بسرعة من مجرد قصبة محلية إلى حاضرة لإمبراطورية الموحدين التي ترامت ممتلكاتها بين الشمال الأفريقي والأندلس.

وقد نشأت مراكش في الأصل، وربما في محاكاة لواقع المغرب الأندلسي، كقسمين أحدهما حصين يسكنه أمراء المرابطين وجنودهم وهو ما يعرف بالقصبة وبه قصر الأمير ودار الحكم والمسجد، وقد أحيط بسور من الحجر المنحوت من جبل إيجليز القريب. أما القسم الثاني الشبيه بالربض في مدن الأندلس فكان مباحا فيه البناء لعامة الناس من دون تخطيط أو أسوار، وأشرف الأمير المرابطي أبو بكر نفسه على أعمال بناء هذا القسم أيضا والذي استخدم فيه الطوب اللبن والطوب الأحمر بالإضافة إلى الطوابي وهو ما يشبه البناء المكون من التراب والحصى المصبوب بين ألواح الخشب.

وعقب اضطرار أبي بكر إلى مغادرة مراكش الوليدة في عام 463هـ (1070م) لإصلاح ذات البين الذي فسد بين لمتونة وجدالة تولى يوسف بن تاشفين استكمال أعمال البناء في المدينة ولذا فإن المصادر التاريخية والجغرافية تنسب تشييدها إليه.

وكان يوسف بن تاشفين يحتزم ويعمل بنفسه في الطين والبناء مع خدمه عند تشييد جامع القصبة واستمرت أعمال البناء قائمة على عهد يوسف بن تاشفين حتى وفاته في عام 500هـ (1106م) وفي عهد الموحدين اشتهرت أسماء ملحقات دار الخلافة مثل دار البلور ودار الريحان ودار الماء.

ويعتقد أن مدينة المرابطين أو القصبة بالأدق كانت تقع في ذات المنطقة التي تعرف اليوم باسم القصبة حيث دار المخزن «الحكم» وجامع المنصور كما توجد بجانبها مقابر السعديين والحقيقة أن دولة الموحدين التي أسقطت أمراء المرابطين واستولت على أملاكهم لم تألُ جهدا في العناية بمراكش التي كانت حاضرتهم الأولى فزودتها بالمنازل والدور الفاخرة كما شيد بها عبد المؤمن بن علي أول خلفاء الموحدين الجامع الكبير المعروف بجامع الكتبية وهو اليوم أشهر المعالم التاريخية والسياحية في مدينة مراكش.

وكان الموحدون عقب استيلائهم على المدينة قد استصدروا فتوى باعتبار حاضرة المرابطين نجسة يحرم دخولها على الموحدين قبل أن يتم تطهيرها أي هدم مساجدها القديمة وإنشاء مسجد جديد للصلاة بها.

وقد شيد عبد المؤمن بن علي مسجده الأول في مراكش مكان جامع القصبة المرابطي على الأرجح، وجعل دار الإمارة أو قصر الخلافة في مواجهة الجامع وكان بينهما سباط «ممر علوي» ينتقل عبره من القصر إلى الجامع دون أن يختلط بعامة الناس.

وما لبث عبد المؤمن أن شيد مسجداً جديداً ملاصقا للمسجد السابق وهو المعروف اليوم باسم جامع الكتبيين، وتشير المصادر التاريخية إلى أن سبب بناء الجامع الجديد يعود إلى اتساع مراكش وتزايد أعداد السكان بها مما أوجب إنشاء مسجد جديد إلى جوار القديم إضافة إلى أن عبد المؤمن أراد أن يكون المسجد الجديد المتقن البناء خير مكان يوضع به «المصحف العثماني» المنسوب إلى عهد الخليفة عثمان بن عفان والذي حمل من قرطبة إلى حاضرة خلافة الموحدين مراكش في موكب بهيج عند بدء تشييد الجامع في سنة 531هـ.

وقد عرف الجامع منذ بنائه باسم الجامع الموحدي أو الجامع العظيم ثم عرف باسم جامع الكتبيين بدءا من العصر المريني وذلك لوجود حوانيت للكتب أمام الواجهة الشرقية للجامع حسبما يذكر الرحالة المغربي الحسن بن الوزان «المعروف بليون الأفريقي» وإن كان هناك من يرى أن تسمية المسجد بالكتبيين أو جامع الكتبية عائد إلى أن الجامع عند بنائه كانت تحيط به مجموعة من الحجرات الصغيرة خصصت لإقامة المكلفين بتدوين وتسجيل الأعمال اليومية التي تم إنجازها في المسجد.

ويتكون جامع الكتبيين من صحن أوسط مكشوف، به فوارة ماء وتحيط به من الجهات الأربع ظلات للصلاة أكبرها وأعمقها ظلة القبلة.

ولجامع الكتبيين صومعة «مئذنة» من أجمل النماذج المعمارية لصوامع المغرب وهي عبارة عن مربع بداخله مربع أصغر أقيمت داخله عدة غرف متطابقة، بينهما طريق صاعد بدون درج.

ومن أهم معالم مراكش قصبتها التي شيدت بأمر من الخليفة الموحدي يعقوب المنصور قبل توجهه إلى نزال نصارى الأندلس في معركة الأرك الشهيرة في عام 591هـ (1195م) وقد استمر بناء القصبة بأسوارها وقصورها ومسجدها البديع حوالي خمس سنوات انتهت في عام 585هـ وإن لم تنقطع فيها أعمال البناء بعد ذلك إذ شحنت بالمدارس والخلاوي والقيساريات التجارية.

وكانت قصبة مراكش تعرف باسم «حومة الصالحة» وقد شيدت كحاضرة سلطانية متصلة بالحاضرة الشعبية مراكش بعدما رأى المنصور يعقوب أن دور الموحدين تضيق عما كان يحفل به بلاطه من مظاهر الترف والأبهة خصوصا بعد اتصال الموحدين بحضارة الأندلس.

ورغم أن منشآت القصبة قد تعرضت للدمار جزئيا بسبب النزاعات بين الموحدين والمرينيين فإن عناية الحكام السعديين ثم العلويين بها وبجامع القصبة بوجه خاص قد حفظت أسوارها وبواباتها الباقية بحالة جيدة.

وتعتبر مراكش اليوم درة الصحراء المغربية وأهم معالمها السياحية، ويكفي أن هذه الحاضرة التي شيدت بالصحراء قد منحت كل المغرب الأقصى اسمه المعروف به في عالم السياحة اليوم «مراكش».