تحجيم الإخوان لا يكون بسن التشريعات والإفراط في التدابير الأمنية والحملات الإعلامية، بل بإطلاق حرية تشكيل الأحزاب المدنية وتمكينها من العمل وسط الجماهير بحرية كاملة، فيعود الناس إلى «التحزب» في السياسة بدلا من بحثهم عنها في الأيديولوجيات التي تلوي عنق الدين ومقاصده السامية الجليلة.ازدحمت الساحة الفكرية والمساحات الحركية المصرية في التعامل مع جماعة «الإخوان المسلمين» بمسارات وطروح كثيرة تراوحت في تناولها لهذه الجماعة بين النقد المغلف بالنصيحة والجَلْد الرامي إلى إقصائها بعيداً عن الحياة السياسية والاجتماعية، باعتبارها جماعة تقليدية ستجرفها الحداثة أو ارتداداً سلفياً على المشروع التنويري الذي عرفته مصر في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن المنصرم، وقام على ما أنتجته قريحتا وبصيرتا الأفغاني ومحمد عبده، وتلاميذهما.
ومن يطالع بإمعان توجيهات الرئاسة المصرية المرفقة بالمواد الدستورية الأربع والثلاثين التي تم تعديلها مع بداية سنة 2007، يكتشف للوهلة الأولى أن الهدف من هذه التعديلات لا يخرج عن أمرين: الأول هو ترتيب السلطة في مصر، والثاني هو إزاحة الإخوان المسلمين ليهبطوا من جماعة سياسية سلمية على أبواب المشروعية القانونية والشرعية السياسية إلى زمرة على عتبات الإرهاب والجريمة المنظمة. فتعديل المادة الخامسة من الدستور لا يسمح لأي جماعة «دينية» أو ترفع شعارات دينية أن تخوض الانتخابات، كما سيمنع المستقلين على الأرجح من خوضها، وبذا يسد الطريق أمام الإخوان في سعيهم إلى التقدم السياسي المشروع، خصوصاً مع تسريبات تشير إلى أن السلطة عقدت صفقة مع أحزاب المعارضة لمنع الإخوان من التحالف معها على غرار ما جرى عام 1984 حين تحالف الإخوان مع حزب الوفد، وانتخابات 1987 التي تحالف فيها الإخوان مع حزبي العمل والأحرار.
وهذا الإجراء الدستوري هو واحد من حزمة إجراءات تتبعها السلطة المصرية منذ الانتخابات التشريعية التي جرت نهاية عام 2005 في سبيل تقليم أظافر الإخوان، وتحجيم وجودهم، وإجبارهم على العودة إلى قمقمهم التاريخي مرة أخرى، رداً على النتيجة اللافتة التي حققتها الجماعة في هذه الانتخابات، ومكّنتها من أن تصبح قوة المعارضة الرئيسة في البلاد. والإجراء الثاني هو استمرار حملات اعتقال رموز الجماعة، وهي مسألة اشتدت في الآونة الأخيرة وأصبحت تدور بشكل منهجي، وترمي إلى حرمان الجماعة من قادتها وحراس بواباتها، القادرين على أن يقودوا عمليات التعبئة والتجنيد المستمرة، وقد وصل الأمر إلى حالته القصوى بتحويل بعض رموز الإخوان، وهم مدنيون، إلى المحاكمة أمام القضاء العسكري. أما الثالث فيتمثل في وجود حملة إعلامية منظمة، مقروءة ومرئية ومسموعة، حيث يُنشر ويُذاع ويُبث عن الجماعة ما يشوه صورتها ويجرح شعبيتها بدءًا من تصريحات رئيس الجمهورية بأن الإخوان خطرٌ على المجتمع، ومرورًا ببرامج حوارية تبدو متفرغة لمهاجمة الإخوان وانتهاءً بمحاولةِ إلصاق جريمة سفاح المعادي الشهيرة بالإخوان على لسان مسؤولٍ أمني رفيع المستوى، مع التنويه المستمر بأنَّ نجاح الإخوان يمثل تهديداً للأمن القومي، وسيتسبب في إدخال مصر في نفقٍ طويل مظلم. والإجراء الرابع هو ضرب الركائز الاقتصادية للإخوان، من خلال اعتقال رجال أعمال منتمين أو منتسبين أو متعاطفين مع الجماعة، وإغلاق شركات ومؤسسات تساندهم مادياً، وتجعل بوسعهم أن ينافسوا النظام الحاكم في أهم ركيزة قوة يمتلكها في مواجهة المعارضة، وهي الموارد الاقتصادية التي يمكن تحويلها إلى موارد سياسية، واستخدامها في تعبئة الناس وتجنيدهم وعملية شراء الأصوات أثناء مختلف الانتخابات، والإنفاق الطائل على الحملات الانتخابية.
لكن تحجيم الإخوان لا يكون بسن التشريعات والإفراط في التدابير الأمنية والحملات الإعلامية، بل بإطلاق حرية تشكيل الأحزاب المدنية وتمكينها من العمل وسط الجماهير بحرية كاملة، فيعود الناس إلى «التحزب» في السياسة بدلا من بحثهم عنها في الأيديولوجيات التي تلوي عنق الدين ومقاصده السامية الجليلة.
إن هذه الإجراءات من اعتقال ومصادرة ومطاردة وتضييق لا تفيد التطور الديموقراطي في مصر، وترجح استمرار الوضع الراهن الذي يقوم على خلل رهيب، حيث نجد أن من يملك المشروعية القانونية ليس في يده الشرعية الاجتماعية كاملة، ومن يملك الشرعية الاجتماعية ليس في يده المشروعية القانونية. والحل هو إيجاد شرعية قانونية لكن ليس على أساس ديني وإطلاق حرية تشكيل الأحزاب السياسية وإلغاء قانون الطوارئ بما يمكّن هذه الأحزاب من العمل في الشارع، وبالتالي تعود جماعة الإخوان إلى حجمها الطبيعي، وتصبح جزءاً من كل، ويصير لدينا أكثر من جبهة منافسة في الحياة السياسية المصرية، أما الملاحقة الأمنية والتضييق والإصرار على الاستمرار في الحكم من دون شعبية فسيؤدي إلى عسكرة الإخوان المسلمين بما يجعلها تتحول مرة أخرى من جماعة بدأت تتعاطى السياسة وتتفهم التعددية وتتعامل معها إلى جماعة أمنية مغلقة ربما يؤدي استمرار الضغط عليها إلى إجبارها على الانزلاق إلى العنف، فيخسر المجتمع المصري في كفاحه المتواصل من أجل الديموقراطية، ويخسر معه المجتمع العربي، باعتبار «إخوان مصر» هم الأساس والأصل لتنظيم الإخوان عبر العالم كله، لاسيما في البلدان العربية.
* كاتب وباحث مصري