Ad

كان السبب الرئيسي لهذه الثورة العارمة هو تفشي الظلم واتساع الهوة بين الطبقات، حيث كانت قلة متخمة من فرط الشبع، وكثرة تعاني قسوة الجوع، الذي بلغ مداه، فأكل الناس العشب، واكتفى بعضهم بشرب الماء، وعز على الطير أن يجد ما يملأ به جوفه.

في غمرة احتفاء المصريين واحتفالهم بثورة يوليو 1952 لا يتذكرون ما طمره النسيان من تاريخهم المديد من احتجاجات وثورات على الطغيان والعوز والمسكنة، لو وضع بعضها فوق بعض لتلاشى الاعتقاد الزائف بأنهم شعب يصبر على الضيم صبراً طويلاً. ويكفينا برهاناً على هذا أن أول ثورة في تاريخ الإنسانية جرت على ضفاف النيل العظيم، وكانت من الشمول والقوة والعنف إلى درجة أنها هزت ضمائر، وأثارت اندهاش، كل من فتشوا في ماضي مصر ووثائقها، باعتبارها أول دولة عرفها البشر.

ولم يقطع أحد بزمن محدد دقيق لهذه الثورة الخالدة، لكن ما ساقه الحكيم إيبور يشي بأنها قد وقعت إبان حكم بيبي الثاني، في سنوات تتراوح تقريبا بين 2280 و2132 قبل الميلاد. وكان السبب الرئيسي لهذه الثورة العارمة هو تفشي الظلم واتساع الهوة بين الطبقات، حيث كانت قلة متخمة من فرط الشبع، وكثرة تعاني من قسوة الجوع، الذي بلغ مداه، فأكل الناس العشب، واكتفى بعضهم بشرب الماء، وعز على الطير أن يجد ما يملأ به جوفه، بعد أن نفدت الغلال من الصوامع، وتركت الماشية تهيم على وجوهها، فهجم الناس عليها وذبحوها والتهموها، حتى فنيت، ووصل الأمر إلى حد أن الناس كانوا يخطفون القاذورات من أفواه الخنازير. ومات خلق كثر، ملأت جثثهم الشوارع والنهر، حتى أصبحت التماسيح تزاور بعيداً عنها، بعد أن أكلت حتى الشبع.

وحين اشتد الجوع بالناس هاجموا بضراوة قصور الحكام والأثرياء، فقتلوا من فيها، ونهبوا ما بها، وأشعلوا النيران في كثير منها، وصار الشعار الذي يسري في البلدات الرابضة على ضفتي النيل هو: «لنقصِ أصحاب الجاه من بيننا».

وترك الثوار بيوت ذوي المال والسلطة خرابا تنعق فيها الغربان، فصار هؤلاء أذلاء من بعد عز، وجوعى من بعد شبع، وبؤساء من بعد تنعم، وهام كثيرون منهم على وجوههم بلا عمل ولا سلطة. وبلغ الانتقام مداه من أبناء الأمراء وأحفادهم ومومياواتهم. واستولى الفقراء الجوعى على ثروات هؤلاء وتحفهم الثمينة، من دون أن يعرفوا لها قدراً، أو يوجد سبيل لبيعها، بعد أن انهار الاقتصاد تماماً، وانتشرت الأوبئة في كل مكان.

ويصف إيبور انتقام من أذلتهم الحاجة ممن تمرغوا طويلاً في النعمة والجاه فيقول: «من كان يرتق نعليه فيما مضى صار صاحب ثروة... ومن لم يكن في مقدوره أن يصنع لنفسه تابوتاً أصبح يملك قصراً... ومن لم يكن باستطاعته أن يشيد حجرة بات يملك فناءً مسوراً... ومن لم يكن يملك ثوراً صار يملك قطعاناً... ومن لم يكن يملك حفنة قمح أصبح يملك أجراناً... وأصبحت ربات الخدور يرتدين الخرق البالية، والعقيلات الشريفات يرقدن على الفراش الخشن... والسيدات النبيلات اللاتي كن متاعاً حسناً صرن يقدمن أجسادهن في الفراش... وأولاد رجال البلاط أصبحوا في خرق بالية، وأولاد الحكام يلقون في الشوارع».

وفي أتون هذه الفوضي سقط الحكم بعد أن انهارت الدواوين والمحاكم ونهبت سجلاتها، وذبح كبار الموظفين وصار من بقي منهم على قيد الحياة بلا كلمة مسموعة، وعاشت مصر بلا حكام لمدة تصل إلى ست سنوات، فانتشرت عصابات السرقة والقتل، وأفلست الخزانة العامة، ولم ينج قصر الملك نفسه من النهب، ليجد بيبي الثاني نفسه أمام هذه الحقيقة المرة، بعد أن عاش سنوات طويلة مثقلا بالأكاذيب، عازلا نفسه عن شعبه، ومسلماً إياها إلى حاشية لا تجيد إلا فن النفاق والكذب والتضليل، ولم يستمع ويعمل بالنصائح المعبرة الأثيرة التي كان يقدمها الملك الفرعوني خيتي إلى ابنه مريكارع، والتي تقول:

«تحل بالفضائل، حتى يثبت عرشك على الأرض

هدئ من روعك الباكي

لا تظلم الأرملة

لا تجرد أحدا مما يملك

ولا تطرد عاملا من عمله

ولا تغدر بزميل لك تلقى معك العلم

ولا تكن فظاً بل كن رحيم القلب

اجعل هدفك حب الناس لك

لا ترفع ابن الشخص العظيم على ابن الشخص المتواضع، بل قرب إليك الإنسان الكفء

ارفع من شأن الجيل الجديد لكي تحبك الرعية، فالمدينة مليئة بالشبان المدربين، فاجعل من هؤلاء أتباعك، وامنحهم الممتلكات، وهبهم الحقول، وائتمنهم على القطعان».

ويا ليتنا تعلمنا بعد هذا الزمن المديد من أمثال تلك الحكم المنحوتة في ذاكرة مصر، «لكن آفة حارتنا النسيان» كما يقول نجيب محفوظ.

 

كاتب وباحث مصري