ينتقل الدكتور فضل في الحلقة الثانية من كتابه إلى أهمية العلم بالشرع الحنيف كشرط لأعضاء الجماعات الجهادية، مهاجماً أولئك الذين يعودون إلى كتب السلف لتنزيل الأحكام الواردة بها من دون أن يكونوا مؤهلين علمياً لذلك. ويحذر من شيوع ما يسميه «فقه التبرير» وهو البحث عن دليل يؤيد ما تم ارتكابه بالفعل من حماقات.

Ad

وعلى هامش هذه الحلقة يطلق الدكتور فضل تنبيهاً جديداً (ضمن سلسلة التنبيهات التي يشتبك فيها بوضوح مع «القاعدة») يرد فيه هذه المرة، وبأسانيد شرعية قوية، على محاولات استخدام مقولة «لا ولاية لأسير» للانتقاص من قدر كتابه، حيث يغمزون من قناته بالإشارة إلى أنه سجين.

وفي ما يلي نص الحلقة الثانية:

ثانيًا: التكليف منوط بالعقل والعلم والقدرة فلا تكليف على زائل العقل للحديث (رفع القلم عن ثلاث)، ولا تكليف قبل العلم وبلوغ الخطاب لقوله تعالى: «...وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً» (الإسراء:15)، ومنه القاعدة الفقهية «لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص»، ولا تكليف عند العجز وعدم القدرة لقوله تعالى «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» (البقرة:286).

1) أما العلم بالشرع: فهو الطريق إلى معرفة ما يريده الله منا، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتعلم علم الشريعة كما قال تعالى «وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا» (الشورى:52)، والإنسـان وإن كان الأصل فيه الجهل كما قال سبحانه «والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا» (النحل:78)، إلا أنه مأمور بالتعلم وطلب العلم، فلا يجوز أن يفعل شيئا حتى يعلم حكمه في شرع الله كما قال سبحانه «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» (النحل:43)، وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم «طلب العلم فريضة على كل مسلم» صححه السيوطي، وقد أمد الله سبحانه الإنسان بوسائل التعلم ليستعملها في طاعة الله ومنها طلب العلم وجعل هذا شكرها، فقال سبحانه «والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون» (النحل:78)، راجع موانع الأهلية المكتسبة في «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين التفتازاني وأبي مسعود البخاري.

وإذا كان طلب العلم واجبًا على المسلم ليعلم ما فرضه الله عليه من الواجب والحلال والحرام، فإن طريق التعلم هو سؤال الأمناء من أهل العلم، فلا يسأل غير أمين لأن خبره لا يوثق به كما قال تعالى «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» (الحجرات:6)، ولا يسأل الجاهل وإن كان يلبس ثياب العلماء لأن سؤاله سبيل الضلالة والهلاك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»، وقال البخاري، رحمه الله، في صحيحه «وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم» في كتاب الاعتصام بالبخاري. وهناك طرق أخرى للتعلم، منها قراءة كتب العلماء الثقات (وهو ما يعرف بالتحمل بالوجادة)، على أن المبتدئ قد يخطئ في فهم كلام العلماء في كتبهم، وقد يوجد لنفس العالم كلام في موضع يقيد كلامه في موضع آخر، فينبغي على المبتدئ أن يستوثق من فهمه، وذلك بسؤال من هو أعلم منه.

ويترتب على وجوب طلب العلم في مقام الجهاد الذي هو موضوع هذه الوثيقة أمور منها:

• أنه لا يجوز لغير المؤهلين شرعيا من أفراد الجماعات الجهادية تنزيل ما في بطون كتب السلف من أحكام مطلقة على واقعنا الحاضر، فالنصوص الشرعية (الكتاب والسنة) وإن كانت ثابتة لا تتغير، إلا أن فيها خيارات تناسب كل واقع وحال، وهذا لا يدركه إلا خبير بالشرع، وقد كتب علماء السلف كتبهم لزمان غير زماننا: كان للمسلمين فيه دار إسلام وخلافة وخليفة وتميز بين الصفوف وبين الناس بعضهم بعضا، المسلمون في دار الإسلام والكفار في دار الحرب، وفي دار الإسلام يتميز الذمي عن المسلم في المظهر، كل هذا لا وجود له الآن واختلط الناس، وهذا من الواقع المتغير المختلف الذي يوجب الاحتياط عند الاطلاع على كتب السلف وعند الحكم على الناس.

• ولما كانت الفتوى (هي معرفة الواجب في الواقع) فلا يجوز العمل بما في كتب العلم إلا بفتوى من مؤهل لذلك، بصير بالشرع وبحقيقة الواقع، وإلا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «اتخذ الناس رؤسا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» الحديث متفق عليه، والفقيه من يفتي بالواجب المناسب للواقع، ذكره ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين).

• ومثل كتب العلم ما ينشر في شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) لا يجوز قبول كل ما ينشر فيها من دون تدبر ومن دون دراية بالأهلية الشرعية للناشر فيها وبعدالته، وخصوصا ما ينشر فيها من تحريض للمسلمين على الصدام مع غيرهم.

• ولا يجوز لغير المؤهل أن يقود مثله في عدم الأهلية لخوض صدامات باسم الجهاد، فإن الاحتياط في أمور الدماء والأموال في غاية الوجوب، وقد قال تعالى «يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا» (النساء:94)، وقد تورع النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل تمرة خشية أن تكون من الصدقة وهي لا تحل له (الحديث متفق عليه عن أنس رضي الله عنه). فكيف لا يتورع المسلم في الدماء والأموال والأعراض ونبيه يتورع في تمرة واحدة؟ وإذا دخلت الشبهة فالكف واجب للحديث الصحيح «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» متفق عليه عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ ولقد رأيت بعض من لا يحسن الإجابة عن سؤال في فقه الصلاة أو الطهارة في حين أنه يفتى ويأمر بإهدار الدماء والأموال بالجملة. فهل يسوغ هذا في دين الإسلام؟

• لا تقبل قولاً أو فتوى من أحد خاصة في هذه المسائل الحرجة كالدماء والأموال إلا بحجة، والحجة هي الدليل الشرعي من كتاب الله تعالى أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثم الإجماع المعتبر والقياس الصحيح. أما أقوال العلماء وفتاواهم فليست حجة في دين الله وليست من أدلة الأحكام الشرعية المذكورة في كتب أصول الفقه. ومن هنا قالوا «إن كلام العلماء يُحتج له ولا يُحتج به»، ومعنى (يُحتج له) أي أنه مفتقر إلى الأدلة التي تثبت صحته. وإنما يستفاد من كلام العلماء إبراز حكم الله تعالى بالإرشاد إلى دليل المسألة وفهم معاني نصوص الشريعة وتوضيح غوامضها وجمع ما تفرق منها.

• وليس أحد معصومًا في هذه الأمة بعد النبي، كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله «كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر» وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن ابن القيم رحمه الله قد ذكر في (إعلام الموقعين ج4) أن أبا بكر لا تعرف له مخالفة للسنة، أما مخالفات عمر بن الخطاب فقليلة، وأما مخالفات علي ابن أبي طالب فأكثر رضي الله عنه أ.هـ، وإذا كان هذا في أقوال الخلفاء الراشدين فكيف في أقوال بقية الصحابة رضي الله عنهم وهم سادة المسلمين؟ وكيف فيمن جاء بعدهم من العلماء؟ وقد عقد كلّ من أبي عمر بن عبد البر في (جامع بيان العلم) وابن حزم في (الإحكام في أصول الأحكام) بابًا في أقوال الصحابة المخالفة للسنة وما رد به بعضهم على بعض، ولولا ضيق المقام هنا لذكرت أمثلة منها. أما من جاء بعد الصحابة ومنهم فقهاء المذاهب الأربعة، فكما قال ابن تيمية رحمه الله «وأما أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم فليس حجة لازمة ولا إجماع باتفاق المسلمين، بل قد ثبت عنهم -رضي الله عنهم- أنهم نهوا الناس عن تقليدهم، وأمروا إذا رأوا قولاً في الكتاب والسنة أقوى من قولهم أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة ويدعوا أقوالهم». وقال ابن تيمية أيضًا «أما التقليد الباطل المذموم فهو قبول قول الغير بلا حجة»، قال تعالى «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا أو لو كان ءاباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون» (البقرة:170) أ.هـ.

• التحذير من فقه التبرير، وقد كثر في هذا الزمان أن يستحسن إنسان أمرًا ما أو يرتكب حماقة ثم يبحث لها بعد ذلك عن دليل من كتاب أو سنة يبرر به حماقته ويدفع به اللوم عن نفسه، وهذا موجود في الأفراد والجماعات، ولن يعدم أحدهم أن يجـد شـبهة مـن دليـل، ولكنه فهمه وحمله على غير مراد الشارع كما قال تعالى «وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا» (الإسراء:82)، وقد كان هذا هو مسلك أهل البدع منذ القدم الذين وصفهم السلف بأنهم (أهل البدعة يعتقدون ثم يستدلون، وأهل السنة يستدلون ثم يعتقدون). وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في أبواب الحيل من كتابه (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان) أمثلة لما استدل به الناس من القرآن على البدع بل على الفجور والمعاصي. وإنما يظهر زيغ الزائغين بجمع أدلة المسألة الواحدة وبهذا يدرك معنى كل دليل وتنزيله في موضعه الصحيح من الاستدلال. فليحذر كل مسلم من هذا المسلك التبريري المعوج.

التنبيه الرابع من الدكتور فضل

(في الرد على رفض البعض لما في هذه الوثيقة بدعوى أنه «لا ولاية لأسير»)

بداية أقول إن عبارة (لا ولاية لأسير) ليست على إطلاقها، فقد ذكر أصحاب كتابَي (الأحكام السلطانية) الماوردي وأبو يعلي رحمهما الله أن إمام المسلمين إذا وقع في أسر العدو باق على إمامته لا ينخلع منها ما دام غير ميؤوس من خلاصه.

ولكن من رفعوا هذه العبارة لهم شبهة في أن إقرار المكره والمضطهد غير صحيح ولا يترتب عليه أثر، ذكر هذا ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين ج4)، والمكره: هو من يفعل ما يطلبه منه غيره ليدفع الضرر عن نفسه، أما المضطهد: فهو من يقر بما طلبه منه غيره ممن يمنعه حقه ليصل إلى حقه، والإكراه ورد في الكتاب والسنة، والاضطهاد ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والأسير أمره متردد بين الإكراه والاضطهاد.

والرد على هذه الشبهة من وجوه ثلاثة:

أولاً: انني لم أدع الولاية على أحد، ولا ألزم أحدًا بقولي باسم السمع والطاعة للقيادة، فهذا شيء لا وجود له، وإنما أنا مجرد ناصح وناقل علم وأطالب المسلمين بطاعة الدليل الشرعي لا بطاعتي؛ لأنه وإن لم يكن بيني وبين من أخاطبهم في هذه الوثيقة إلزام بالولاية والقيادة، فإن بين المسلمين جميعهم إلزاما أعظم من ذلك وهو النزول على ما دل عليه الدليل الشـرعي الذي هو قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا بمقتضى إيمان المسلم كما قال الحق تعالى «إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون» (النور: 51)، وقال تعالى «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناًط (الأحزاب:36). وأنا لا أذكر قولاً في شيء من كتاباتي إلا بدليله من كلام الله وكلام رسوله، وما يجب بالشرع مقدم على ما يجب بالعقد لأن طاعة الله ورسوله مقدمة على طاعة القيادات لقوله تعالى «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر» (النساء:59).

ثانيًا: إن القول بأن إقرار المكره أو المضطهد -ومنه الأسير- لا أثر له، إنما هذا في الأمور التي لا تثبت إلا بإقراره، كأن يقر بارتكاب جريمة أو يقر بمال عليه أو يطلق زوجته، أما الأمور التي تثبت بغير إقراره بل بالبيانات والشهود العدول فإن آثارها معتبرة ومعتد بها شرعًا. ومن هذا الباب ما أذكره في هذه الوثيقة فإنه ثابت بالدليل الشرعي لا بمجرد قولي. ولهذا فإن العبرة بدليل الكتابة لا بمكانها من سجن أو حرية.

ثالثًا: انه ليس صحيحا أن كل ما يخرج من السجن فهو باطل، بل يجب النظر في دليل الكلام قبل النظر في مكانه، وقد وعظ نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ وهو في السجن، فهل كان سجنه حجة لرفض ما قاله من الحق؟ لا يقول بهذا مسلم ولا عاقل. قال تعالى -عن يوسف ـ عليه السلام «ياصاحبي السجن أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون» (يوسف:40،39). كما أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد كتب كثيرًا من مؤلفاته وهو مسجون في قلعة دمشق، وشمس الأئمة السرخسي كتب كتابه (المبسوط) في فقه الأحناف وهو مسجون في (أوز جند)، فهل كان السجن مدعاة لرفض ما كتبوه رحمهم الله؟ لا يقول مسلم بذلك، والأمثلة كثيرة، وأكرر فأقول «إن العبرة بدليل الكتابة لا بمكانها». وأي شيء في كتاباتي يخالف الدليل الشرعي الصحيح السالم من المعارض فأنا راجع عنه وأقول بما دل عليه الدليل.