خذ وخل: الحداد يليق بـ بني لاب !

نشر في 13-02-2008
آخر تحديث 13-02-2008 | 00:00
 سليمان الفهد

فقهاء نظرية المؤامرة أفضى بهم انقطاع خدمة الانترنت إلى التصريح بأن البليّة الحاسوبية، ما هي إلا توطئة لحرب إلكترونية صاروخية مدمرة ستشنها واشنطن على طهران! لكن عودة الخدمة إلى فضاء «النت» قوض دعاوى نظرية المؤامرة.

* من الناحية الشكلية بت أنتمي إلى «بني لاب» القبيلة الحاسوبية القاطنة في الفضاء الاتصالي المنعوت بالقرية العالمية الصغيرة! فقد صار بحوزتي براق خاص «إيميل» واقتنيت عدة «اللاب» واشتركت في خدمة الشبكة العنقودية، وغاية ما تعلمته في الشهور الثلاثة المنصرمة هي معرفة موقع «الجريدة» وقراءة صفحاتها، ومن ثم البحلقة في «إيميلات» القراء مثل الأطرش في الزفة! ويبدو أن العبدلله سينتظر إلى حين اختراع قلم حاسوبي يمكنني من التواصل مع القراء من دون تكبد عناء الطباعة بالأنامل التي ألفت القلم وما يسطرون!

أما من الناحية العملية فمازالت علاقتي بـ «اللاب» ديناصورية متشبثة بعدة وعتاد الكتابة والقراءة التقليديتين! من هنا كنت في غاية الانشراح و«الانشكاح» وأنا أشاهد خلق الله الذين يعتمدون على الحاسوب في حياتهم اليومية، في حالة «حيص بيص» لا يغبطون عليها، إثر انقطاع الكيبلات البحرية التي أفضت إلى الموت المؤقت لمئات الملايين من أجهزة الحاسوب، واضطرار مستخدميها إلى الردة إلى الفاكس والبرقيات اللاسلكية، ولم أخفِ شماتتي بنكوص «بني لاب» إلى العدة الاتصالية العتيقة! لكن الشماتة انقشعت وانقلعت حين رأيت الهلع المستحوذ على الحاسوبيين، الناشئ عن الخشية من الخسارة المادية والأدبية المتمخضة عن انقطاع خدمة «النت». ولأني جاهل متعب بتقنية استخدام الحاسوب، لم أكن أظن أن سكان القرية العالمية سيصابون بالشلل التام! وخصوصاً الشباب منهم الذين يشكلون أغلبية الجاليات الحاسوبية.

* ولعل المقالة التي أبدعتها الزميلة «نوارة أحمد فؤاد نجم» بعدد الأحد الماضي بصحيفة «الوفد» تجسد- بظرف وخفة دم موروثين عن الوالدين- حالة الورطة التي كابدها الحاسوبيون التي لم يجدوا لها حلاً سوى بالعودة إلى استخدام العدة القديمة للاتصال والتواصل كما نوهت آنفا، تقول «نوارة»، وهي تندب حظها بفجيعة «ميلودرامية» لانقطاع خدمة «النت»: «ماذا أفعل ياربي؟ كيف أقرأ الصحف المصرية والعربية والعالمية؟ كيف أتلقى الرسائل المهمة؟ وكيف أرسل رسائلي الخاصة بعملي؟ كيف أحصل على الخبر من عدة مصادر كما اعتدت؟ ليس بيني وبين العالم الخارجي سوى الهاتف الأرضي الذي أتلقى عليه صرخات: إنتي عاملة أيه في المصيبة دي؟ أنا حالي واقف... بيتي ح يتخرب.. عندي (ديدلاين) وكل دقيقة تأخير بفلوس».

الحق أن «البُنية كسرت خاطري.. وصعبت عليّ»، لكنني حين تابعت بقية مقالتها وجدتها ليست بحاجة إلى مواساتي، لأنها ثارت ثورة عارمة ضد ذل وعبودية وسائل الاتصالات الحديثة فتزأر قائلة: «إنني أكره الذل والعبودية، لأول مرة ألحظ أن عصر النخاسة لم ينتهِ، وأنني أَمَةٌ ذليلةٌ، بمحض إرادتي، وبكل فخري، وبحر مالي، لما يسمى بـ «ثورة الاتصالات» مسلسلة بأغلال قيّدْتُ بها نفسي- مع زملائي- عبيد «القرية الصغيرة» وهذه المشاعر التي اكتنفت بنت أخي الزميلة «نوارة نجم» كما يحلو لها تسمية نفسها، أحسبها بمنزلة لسان حال الشباب الحاسوبيين الذين راعتهم بليّة انقطاع خدمة النت على حين غرة.

والطريف أنها لم تجد حلاً ينقذها سوى اللجوء إلى مساعدة والديها الشاعر «أحمد فؤاد نجم» والناقدة الكاتبة الصحافية الحاجة «صافي ناز كاظم»، لكونها تشعر بأنها «الأسيرة المكبلة التي أنشد مساعدتهما بوسائلهما التي كنت أظنها «بدائية» لا تمكن من القيام بأبسط نشاطات حياتي»، وقد تناست «نوارة» و«لحسَت» ما كانت تقوله كله من هجاء في شأن أمية والديها الحاسوبية! لا شك أنه مشهد سيريالي طافح بالمفارقة؛ المعجونة بالسخرية السوداء! أعني اضطرار الحاسوبية العارفة بتقنية الكمبيوتر وتشغيله، لكل الاحتياجات اليومية، إلى طلب مساعدة والديها اللذين طالما نعتتهما بالديناصورين بجهلهما بـ«اللاب» وتجاهلهما له بعناد متجذر لا يلين!

وأحسبني لا أغالي إذا ذكرت أن الأيام التي غابت فيها خدمة «النت» عن منطقة الشرق الأوسط، كانت أيام حداد كُحلية استجاب لها العديد من الحاسوبيين بالغربة الشديدة، والعزلة المضمرة بمشاعر الاحباط والاكتئاب والقهر، فضلا عن المشاعر الأخرى التي دبجها يراع الزميلة «نوارة نجم» بشفافية بليغة معبرة عن إحساسها بوطأة فجيعة الموات المؤقت الذي أدرك الحاسوب وهو في عز شبابه وحيويته.

الأمر المحير بحق هو عدم صدور بيان، من أي جهة مختصة، يقول لغواه «اللاب» ومريديه الأسباب التي أدت إلى قطع «الكيبلات» في بحر الإسكندرية، وفي الخليج العربي، الأمر الذي أفضى بفقهاء نظرية المؤامرة إلى التصريح بأن البليّة الحاسوبية، ما هي إلا توطئة لحرب إلكترونية صاروخية مدمرة ستشنها الولايات المتحدة الأميركية على الجمهورية الإيرانية الإسلامية! لكن عودة الخدمة إلى فضاء «النت» قوض دعاوى نظرية المؤامرة، كم كنا- معشر الدناصير- في حالة هدوء تام، لكوننا غير معنيين بحضور الحاسوب في حياتنا اليومية، ولم نحفل بغيابه مطلقاً. فإذا كان صحيحا أن العلم نور... فإن الجهل أحيانا يكون «أنوراً»!

back to top